+ -

كلما سمعت الحديث عن الازدواجية اللغوية ومنافعها العديدة في الجزائر تذكرت الكاتبة الفرنسية ”آن بلنتجني” التي أخذت والدها، وهو ابن أحد المعمرّين، في زيارة إلى مسقط رأسه. لقد ولد في وهران، وغادرها شابا يافعا قبل استقلال الجزائر. فدوّنت هذه الزيارة في كتاب مؤثر ومنصف ومتعاطف مع الجزائريين عنونته بـ« ثلاثة أيام في وهران”. تقول فيه: ولد أبي في بيت بشارع ”كوندورسي” الذي أصبح يسمى نجاح محيو، كما يدل عليه اللوح المكتوب باللغتين العربية والفرنسية. لقد رُفع هذا اللوح فوق لوح قديم ذي اللون الأزرق المطلي بحروف فرنسية بيضاء نقية. وعلقت الكاتبة على اللوحين بالسؤال التالي: أليس من الغرابة الاحتفاظ باللوحين بعد كل هذه السنين؟ فمن لا يعرف تاريخ الجزائر المعاصرة يجد صعوبة في معرفة أيهما الأحدث. ويخطئ، بكل تأكيد، من يحاول فعل ذلك لأن اللوح الجديد يبدو باهتا ومتآكلا إلى درجة يصعب فرز حروفه من بعيد، بينما ظل اللوح القديم في حالة جيدة! ويساندها مرافقها الجزائري بالقول أن لا أحد في وهران يعرف هذا الشارع باسم محيو حتى نحن أبناء الاستقلال!يعتقد البعض أن الربط بين الازدواجية اللغوية وهذا المثال لا يخلو من المبالغة والتجني. وهو كذلك لمن يعتقد أن اللسان مجموعة صوتية أو أحرف مكتوبة تنتهى وظيفتها بالاتصال، وينمحي فيها كل بعد تاريخي واجتماعي وثقافي وعاطفي.ربما يحيلنا ما سبق ذكره إلى القول أن الازدواجية لا توجد سوى على صعيد الخطاب. أمّا تأثيرها في الواقع اليومي فمحدود جدا. فبجانب أقلية الأقلية التي تتقن اللغتين العربية والفرنسية معا، توجد نخبة ناطقة إما بلسان عربي أو فرنسي وكلتاهما تعيش في مجتمعها الخاص، على حد تعبير أستاذ علم الاجتماع المرحوم جمال غريد، مجتمع معرّب والآخر مفرنس، ولكليهما مرجعيته اللسانية والثقافية وفهمه للمجتمع والعالم. وهذا الأمر ليس جديدا في الجزائر، بل أوجده الاستعمار الفرنسي واستقوى، مع الأسف، بعد الاستقلال. أما العامة فيتكلمون لغة هجينة ليست عربية ولا فرنسية ولا أمازيغية. بل خليط تتداخل فيه كل هذه اللغات. قد يقول قائل إن هذا التصنيف إيديولوجي يحاكي الإيديولوجيا التي”أضعفت” القاسم المشترك بين المجتمعين المذكورين بشكل أكثر من القاسم المشترك الذي يربط الناطقين باللغتين المذكورتين في المغرب وتونس، وبين الناطقين باللسان العربي والانجليزي في بلدان المشرق العربي. ويعتقد أن توصيف الوضع اللساني بشكل موضوعي يقتضى القول أن اللغات التي تتعايش في الجزائر هي أربع: اللغة الفرنسية واللغة الأمازيغية والعربية الفصحى والعربية ”الجزائرية”. والسؤال الذي يثار أكثر، يدور حول اللغة الأخيرة، التي رآها أحد المغنين الجزائريين في حواره مع التلفزيون الفرنسي متعددة، وتكاد تبلغ، بشيء من المبالغة، عدد ولايات الجزائر!إن تاريخ اللغات يثبت لنا أنه منذ ظهور الكتابة في العالم أضحت اللغة تتضمن مستويين: المستوى الأدبي والمحكي. فلا أحد اليوم في الشارع البريطاني يتحدث لغة شكسبير. وهذا لا يعني أن ما ينطق به لا صلة له باللغة الانجليزية. والفرق بينهما أن اللغة المحكية تستوعب، أكثر، المفردات والمصطلحات الأجنبية وتتطور بسرعة أكثر لتحررها النسبي من قيود قواعد النحو والصرف الصارمة. وهذا ما حدا بالبعض إلى المطالبة بإعفاء اللغات المكتوبة من بعضها.  المشكل أن لغة العامة في الجزائر، أي المحكية، تحولت إلى لغة هجينة لأسباب متعددة أمام وهن النظام التعليمي في تحصيل اللغات، سواء العربية أو الأجنبية. والطامة الكبرى أن وسائل الإعلام المختلفة أصبحت تتنافس لأسباب تجارية بحتة، على إعادة إنتاج هذا الهجين وتعميمه ”سواء في الإشهار أو الأخبار أو برنامج المنوعات. والنتيجة أن اللغة الفرنسية ظلت محتفظة بمكانتها العملية والرمزية في الدوائر الرسمية، خاصة تلك المرتبطة بالقرار الاقتصادي والسياسي وفي وسائل الإعلام رغم ضعف كفاءة الكثير من المتحدثين بها. وانجرت وسائل الإعلام ”المعربة” بما فيها المكتوبة إلى إعطاء شرعية لهذا الهجين اللغوي. قد يقول البعض إن وسائل الإعلام مضطرة لمخاطبة الشعب بلغته. وهذا كلام سليم، لكن المرحوم عبد القادر علولة كان يتجه بمسرحياته إلى هذا الشعب ذاته، ولم يقحم فيها أي كلمة أجنبية وكانت مفهومة من قبل الجميع. وهنا تكمن مسؤولية وسائل الإعلام الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، فعليها الاستعانة بخدمات فريق متعدد التخصصات (لسانيات، علم الاجتماع والاتصال) للتغلب على اللسان الهجين ضمن مدوّنة لسانية إعلامية دون أن تحرمها من تأثرها باللغات الأخرى، بل تنتقي الكلمات الأقرب إلى فهم العامة. كأن تستبدل كلمة أمام بقدام، وكلمة خلف بوراء، والطريق بدل النهج أو الشارع، ونحّى بدل خلع......     www.nlayadi.com

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: