+ -

 معذرة أَبَـا تَمَّـامَ، كنا نعتقد أنك لم تسأل سوى شاعر اليمن، عبدالله البردوني، منذ نصف قرن تقريبا، عندما قال مَاذَا جَرَى.. يَـا أَبَـا  تَمَّـامَ  تَسْأَلُنِـي؟          عَفْوَاً سَـأَرْوِي .. وَلا تَسْأَلْ .. وَمَا  السَّبَبُلكنك اليوم تسألنا جميعا عما جرى لنا؟ وما السبب الذي أدى بنفر من قومك إلى تفجير تمثالك في شهر فبراير 2014 بالموصل، بعد أن أقدموا على الفعل ذاته بتمثالك في درعا بسوريا؟لن يفيدك قولي أن من فجّر تمثالك هو ذاته الذي قطع عنق تمثال أبو العلاء المعري في معرة النعمان في محافظة أدلب السورية. وهو الذي نسف تمثال الشاعر محمد الفوراتي في دير الزور. وهدم تمثال الموسيقي العبقري ابراهيم الموصلي، ودنّس قبر ابن الأثير صاحب كتاب الكامل. ولن أواسيك لو قلت لك أن تمثال الخليفة ”أبو جعفر المنصور”، مؤسس مدينة بغداد، لقي مصير تمثالك بعد احتلال العراق في 2003 .هل تعتقد أن من نسف تمثالك يجهل أنك تخليت عن نصرانيتك التي ورثتها عن والدك لتعتنق الإسلام عن حب واقتناع. وأنك أحسن من خدم لغة القرآن، اللغة العربية- لغة العين- كما تسمى اقتداءً بالخليل بن أحمد؟ لكن من أين لناسف تمثالك أن يعرف هذا الخليل، وهو لم يتصفّح دواوين شعرك، ليتأكد من إبداعك وتجديدك للسان العربي. ربما هذا التجديد هو الذي جنى عليك لدى قوم هُجن لسانهم.ربما لم يغيظك تفجير تمثالك بقدر ما أثار شفقتك على مرتكبيه الذين خصّهم المستشرق ”رو أوليفييه” بكتاب عنونه بـ ”الجهل المقدس: دين بلا ثقافة”، لأنك أدرى أن علماء المسلمين القدماء كانوا حجة في الدين والرياضيات والكيمياء والفلك والبصريات والطب واللغة والشعر والموسيقى. قد يبرر البعض تفجير تمثالك وتماثيل غيرك بالقول أنها تمثل شكلا من أشكال الشرك! فإذا كنت تعتقد أن زمن اللاة ومناة والعزى قد ولى، فالبعض من قومك مازال يراها ماثلة أينما اتجهوا، وفي كل مظاهر العمران والفن! ويعتقد أن التاريخ توقف ولم يبرح الجاهلية. أيعقل أن الذين نحتوا تمثالك، والذين تأملوه مليا منذ عقود، والذين حافظوا على الآثار الأشورية والبابلية والرومانية والإسلامية مشركون؟ لكن فهم الرمز وما يحيل إليه ليست في متناول كل البشر.أعرف يا أَبَـا تَمَّـامَ أنك لم تبال بوسائل الإعلام التي تجاهلت مصير تمثالك، لأنها إما غارقة في نشر النميمة بين الفنانين وتسعير غيرتهم، أو منهمكة في إذكاء نار الفتنة بين المسلمين. إذا، فلتغفر لهم جهلهم، لأنك عشت في ظل التسامح الذي نفتقده اليوم. فأبو الطيب الكندي لم يصلب، ولم يستباح دمه عندما ادعى النُّبُوَّة. فجزالة شعره وبيانه أنست الناس اسمه، واحتفظوا بكنيته فقط ”المتنبي” التي لازالت تحملها شوارع بغداد والرياض والكويت....ربما تعتقد أن هؤلاء القوم لا يشغلهم شاغل سوى تمثالك الذي يرمز إلى الماضي، لأن لا مستقبل لهم، فعقدوا العزم على مسح الماضي من رموزه الفكرية والأدبية والثقافية والفنية. إنهم يناكفون بعض الفلاسفة الذين يزعمون أننا نستفيد من الفن أكثر من التاريخ، فأصدروا حكمهم بإعدام التاريخ والفن معا.ماذا لو عشت يا أَبَـا تَمَّـامَ في جمهورية كمبوديا التي استولى فيها الخمير الحمر على السلطة، فقضوا على حوالى 20% من سكانها! ومسحوا ثقافتها من إرث الماضي بكل ما يحمله من رموز ومعالم؟ لكن بعد أن ذهبت ريحهم قامت الأميرة الحسناء ”بوفا دوفي” وزيرة الثقافة، باسترجاع الثقافة الكمبودية بكل مكوّناتها دون أي إقصاء، بما فيها ثقافة الخمير الحمر. وكانت تردّ على منتقديها بالقول إن ثقافة الخمير الحمر هي جزء من الثقافة الكمبودية. وتسأل كيف نستطيع أن نقنع الأجيال القادمة بما فعله هؤلاء الخمير بشعبنا وتاريخنا وثقافتنا إذا مسحنا أثار وجودهم في كمبوديا؟ لو عشت في كمبوديا لحمت الأميرة الحسناء ذكراك. وحولت تمثالك إلى مزار يقصده أطفال المدارس وسياح العالم، ليطلعوا على سيرتك ويقرأون عيون شعرك مترجما إلى كل لغات العالم. قد يلومني البعض على جزعي من جزّ رأس مصنوع من مادة الغرانيت أو الحجر، في وقت تجزّ فيه الرؤوس بسبب الاختلاف في اللباس أو الأكل أو الشرب أو اللغة أو الرأي أو المذهب أو العقيدة. لهؤلاء أقول إن الجزّ واحد سواء كان للفكر أو البشر. وإن الجزّ الأول يُشَرع الثاني. هل لنا أن نواسي أنفسنا قبل أن نواسيك يا أَبَـا تَمَّـامَ، ونتفاءل رغم انتكاس الفكر؟ ألست القائل:    وما من شدة  إلا سيأتي.. لها بعد شدتها رخاء؟

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: