المبـــــــــدع الملتــــــــــــزم: سميح القاسم نموذجا

+ -

 كثيرا ما ردد شعار الالتزام عند الفنانين القادرين على نشر الوعي السياسي والاجتماعي عند الناس، لكن سرعان ما بطل هذا الوهم وانهار تماما في آخر القرن العشرين. وهذا الفشل راجع إلى فقر النظرية العامة التي تمهد لنتائج سلبية في العمل السياسي وأحيانا تكون مدمرة. ويمكن القول بشكل عام إن سياسة خاطئة في حقل الثقافة تؤدي إلى نظرية تعكس خطأ ما في مفهوم السياسة ككل، إذ لا يمكن فصل الفعل السياسي عن العمل الثقافي، فلا نظرية إذن دون تطبيقها بشكل خلاق على واقع اجتماعي محدد لإنتاج معرفة نظرية تربط بهذا الواقع. وبالتأكيد فقد قامت الطبقات الواعية والطلائعية في العالم العربي وغير العالم العربي بدور تنويري أساسي للدفاع عن “الذكاء” والقيم الإنسانية.وهكذا رأينا ـ في الغرب - روايات سارتر وأراڤون ولوحات بيكاسو وخوان ڤريس تحاول بث الوعي في ذهن المتفرج، لكن هل لعبت رواية سارتر “الغثيان” دورا ثوريا حقيقيا؟ وهل لعبت لوحات بيكاسو “ڤرنيكة” و”نساء الجزائر داخل شققهن” دورا أساسيا؟ فالجواب بلا هو الجواب النزيه.وقد رأينا في تلك الفترة الكثير من الإبداعات العربية تحاول تقليد محاولات الفنانين الغربيين، لكن دونما جدوىǃلكن عملية التنوير والدفاع عن القيم الإنسانية وقيمة الأداء داخل العناصر التي تكون فلسفة الطبقة المتقدمة، فقد قدمت الكثير من المراحل الإيجابية.أما ما لاحظناه بعد نصف قرن من هذه المحاولات فنلخصه كالتالي: إذا نجح الفنانون الغربيون والعرب (من كبار المبدعين المرشحين لفن عالمي وراقٍ)، فذلك لم يكن من خلال خلقهم، بل من خلال نضالهم السياسي والحزبي مثلا.هناك ثقافة كرة القدم والأغنية الساذجة (منها الراي!) والمسلسلات المصرية المشاغبة لجزء كبير من الشباب (والشابات على وجه الخصوص) والمسرحيات الرديئة إلخ. فهذه الثقافة الاستهلاكية مدمرة للفكر وللخلق وللإبداع وللتجديد، وهي كلها تجر وراءها شعارات سياسية في خدمة المولى وفي خدمة السلطة التي تعطيها أهمية كبرى واهتماما كبيرا لأنها ثقافة عبثية سوف لن تستعصي عليها أبدا.أما الثقافة “الأخرى” فتبقى هامشية ولكنها هي التي تخرق التاريخ. ففي عصر بشار بن برد والخيام والموصلي وزرياب والوسيطي، كانت تسود كذلك ثقافة رديئة أتلفها التاريخ بسرعة رهيبة.أما المثال الأمثل للفنان العبقري الذي اعتزل فنه وفي نفس الوقت فتح باب النضال على مصراعيه فهو: سميح القاسم الذي توفي منذ أيام. ذلك الشاعر الفذ الذي عرف كيف يفرض القطيعة بين الفن والسياسة، بين الإبداع والنضال العربي. هو الرجل الذي دخل الحزب الشيوعي منذ سن المراهقة واشتغل فيه كادحا في مجال الثقافة، فكم من مجلة أدار وكم من مسرح شيد وكم من خطب حماسية رمى بها على رؤوس المناضلين الفلسطينيين.هو الشيوعي المتمرد، هو الشاعر العظيم، هو المقاوم الذي أهان إسرائيل رغم سنوات القمع وسنوات السجن وسنوات الحجز في منزله، هو ـ خاصة - الذي لم يترك وطنه الجريح والذي رفض عدة مرات مناصب في الخارج أهداها له ياسر عرفات، هو الذي بقي (كمسمار جحا) في قعر فلسطين وعاش وناضل وأبدع في زركة ورام الله ونابلس وصنف رائعة “دمي على كتفي”.سميح القاسم، نموذجا.. حقا واستحقاقا.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: