عن التحرش والعنف: قراءة سوسيولوجية

+ -

على الرغم من أهمية الردع القائم على التجريم والعقوبة، تبقى ظاهرة العنف ضد المرأة والتحرش بها، في حاجة دائما إلى عين سوسيولوجية، أكثر منها بيولوجية أو مادية، بحثا عن خلفيات القراءة الغرائزية البحتة لجسد المرأة، أصل الظاهرة التي تقف وراء الهوس وفقدان التوازن المؤدي للتحرش، تماما كما يؤدي التصور المادي الحسي للجسد والكيان الأنثوي إلى تعنيفه وإلحاق الأذى به اعتقادا بأنه لا يزيد عن كونه كتلة صماء من شأن الوجع المادي ردعها عن ارتكاب الحماقات، فعقل المرأة إلى حمق كما يقول المثل القديم. ولأن مؤسسات البحث العلمي لا تواكب دوما ما يحدث في الواقع الاجتماعي ولا تنسيق بينها وبين الإعلام المهني والجاد في تسليط الضوء على خلفيات الظاهرة وآثارها، يحدث العجز عن وضع المجتمع أمام نفسه كي يكتشف واقعه ويرى عيوبه أمامه، لاسيما أن التحرش وممارسة العنف ضد المرأة فعل ذو علاقة مباشرة بالمفهوم الثقافي للجسد المؤنث الناتج عن رصيد تراكمي اجتماعي أدى إلى تركيب ذهنيات متكلسة قائمة على أسس من ثقافة مكتسبة شكلت مخيالا خصبا يغذي باستمرار تصورات وإيهامات فئات واسعة من الرجال، لذلك لابد أن يتمركز البحث في الموضوع حول خلفية تلك القراءة وذلك التصور المفارق لحقيقة الجسد الأنثوي ومفهوم الأنوثة.  منذ المعلقات وما حفلت به من أجساد ترفل وتتأوه وتتمايل إلى غاية كل ما زخر به ديوان العرب ولا يزال من رصيد غزليات مفعمة بالرموز الشهوانية المسعورة وكذا قصص ألف ليلة وليلة وما تضمنته من حالات الشغف والإغماء والأسقام التي تصيب الشاب من لفتة أو نظرة، بالإضافة إلى كتابات الجاحظ الذي مر على حديقة كل الحيوانات في تشبيهاته المرأة ومحاسن جسدها بما لدى تلك الحيوانات، فضلا عن تراث أبي حامد الغزالي وجل أئمة التفسير الكبار وانتهاء برسالة السيوطي التي يجعل فيها جسد المرأة سببا في حرمانها من رؤية الله عز وجل يوم القيامة، فضلا عن تراث خطير من الفتاوى الصادرة عن منظومة فقهية وضعية غاية في التجاوز والظلم بحق المرأة، برعت في توظيف قواعد درء المفاسد وسد الذرائع وفي بناء مغالطات حول مفاهيم الفتنة والجسد والأنوثة، انتهت بمفهوم للجسد يطارد المرأة في الفضاء العام ويحملها على التواري والاختفاء على اعتبار الجسد مصدرا للغواية والخطيئة والفساد الأخلاقي. فحرمت أجيال من النساء من التعليم والعمل ومورست ضدهن كل أشكال العنف المادي والمعنوي باسم الدين، وأبدع الشيوخ في اختراع أنواع من الزواج من خلال الحيل الفقهية الهدف منها الوصول إلى الجسد بدون تكاليف أو تحمّل للمسؤوليات، وهو نوع آخر من العنف السيكولوجي والمعنوي، ومن بينها زواج فريند والمسيار والعرفي والسياحي ونكاح الجهاد، أما زواج المتعة فإنه الشيء الوحيد الذي لم تقف الطائفية في طريقه، حيث التقى عنده الشيعة وبعض علماء السنة إن سرا أو جهرا، حيث يطلبه كثير من كبار علماء السنة ويسعون إلى العمل به سرا. فعندما يتعلق الأمر بجسد المرأة، لا مكان للعصبية المذهبية، إذ تفسح الغريزة الجنسية وجسد المرأة بمفهومه الاختزالي مساحة تقاطع واسعة بين الجميع. سبحان الله يتفقون على طريقة غزو أجساد النساء ويتقاتلون على كل شيء بعد ذلك.ووصولا إلى العولمة والسوق والنمذجة، نمذجة أجساد النساء القائمة على صناعة الجسد والاستثمار فيه، حيث يصبح كل النساء يشبهن بعضهن بعضا في كل مكان بفعل جراحات التجميل التي تحدد العيون المثالية والأنف المثالي والشعر والرموش والأوزان والقامات... الخ... والإعلانات وصناعة الأجساد التي تقوم عليها شركات الإنتاج العملاقة القائمة على الربح وعلى صناعة نساء تتمحور حياتهن حول مبدأ “التمركز حول الأنثى” بالمفهوم الثقافي المكتسب للأنوثة، وتأثير كل ذلك على الصورة التي ترتسم في أذهان الشباب والمراهقين وغيرهم حول مفهوم الجسد.أضف إلى ذلك فضائيات الجنس والمواقع الجنسية على الشبكة وما تخلّفه من آثار في المجتمع الذي يصبح فيه ظهور أجساد النساء كمن يفرض نتوءاته ذات الدلالات الجنسية، كما تمت مشاهدتها على الشاشات، ويقع ذلك في فضاء اجتماعي ذكوري، يرى وفقا لما خلفته المشاهدة من آثار بأنها تستحق العقاب عبر التحرش وممارسة العنف.وتمتزج هذه التصورات والقراءات جميعها وتتفاعل في ظل غياب ثقافة أو تربية جنسية علمية من خلال مقاربات سوسيولوجية وبيولوجية وسيكولوجية تكسر تلك الثنائية الديكارتية المفروضة جسد/عقل، وكذا اجتهادات دينية تنويرية تبني ثقافة استيعاب جديدة من خلال استثمارها فيما انتهت إليه العلوم الإنسانية من نظريات واستكشافات وبما يمكنها من صياغة فلسفة جديدة للجسد تجعل منه مركبا للروح قبل أن يكون مركبا للغريزة وتجعل من الأنوثة جوهرا قبل أن تكون صفة، فتحول دون تجريد الجسد من المعنى والروح والقيمة، وتقع على الإعلام مسؤولية كبرى في تسليط الضوء على كل ما من شأنه أن يلوث أو يشوه هذه المعاني لدى الإنسان، وعلى قطاع الثقافة أن يسهم في صناعة هذه الثقافة بفتح الآفاق لرؤية ثقافية جديدة تحقق بعض التوازن بين الحدث الثقافي وبناء الثقافة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: