أن تكتب رواية، يعني أن تعيش تفاصيلها يوميا، وأن تستذكر شخصياتها، وتستعيد أحداثها حتى بعد الانتهاء من كتابتها وصدورها في كتاب. وما تزال روايتي الأخيرة ”توابل المدينة” تسكنني وتتبعني إلى اليوم، فكلما مررت من خراب المدينة من حولنا إلا وتذكرتها، واستعدت شخصياتها. لما أنزل إلى وسط البلد مثلا أجده خاليا من لمسات أيام زمان، لما كان الناس في غاية الأناقة والترف السلوكي. وتعود تفاصيل كثيرة من الحياة التي كانت، من كثرة التأثر بها، والحسرة على انقراضها. فهذه روائح العطور مثلا لا تبرح الذاكرة، بعد أن انغرست فيها تلابيبها وبقيت مستفحلة قائمة، كما بقي هندام الناس، المتبدل حسب تبدل الفصول، وبقيت سلوكياتهم الحضرية الرفيعة، وحتى طريقة الكلام الخالية من العنف والفظاظة، مازلت أتذكرها جميعا، وأحن إليها. لهذا جاءت روايتي الأخيرة لكي ترثي لحال البرجوازية الجزائرية التي عرفت مصيرا مخيفا بعد استقلال البلد. فقد اتهمت بالخيانة من قبل نظام الحزب الواحد، الذي احتكر الوطنية، واعتنق الأيديولوجية الاشتراكية، ودافع عن الانتماء العروبي. وجهت لها أصابع الاتهام رغم أنها شاركت في حرب التحرير، وقدمت لنفسها نقدا ذاتيا مكنها من التخلي عن أوهام الاندماج في المنظومة الاستعمارية التي راودتها خلال مطلع القرن العشرين.لقد حاولت فهم مأساة البرجوازية بالعودة إلى التاريخ، وبالفعل فقد انتصرتُ لقيم إنسانية تمثلها البرجوازية، التي كانت تظهر في أعمال الروائيين الجزائريين في السبعينات كأنها ”الشر المطلق”. انتصرت للقيم الإنسانية وليس للأيديولوجية، وكتبت الرواية كمرافعة من أجل إعادة الاعتبار لقيم التسامح، والفن، انطلاقا من اعتقادي بأن البرجوازية هي الفئة الأكثر قدرة على حمل مشروع تكون فيه الثقافة ركيزة أساسية.ثم إنني انتصرت في الرواية للتمدن على حساب ”الفوضى”. انتصرت للكتابة، ووضعت خيار العنف في مأزق، هو مأزق شخصية محورية في الرواية هي شخصية برهوم بوسلمان الذي يجد نفسه محاطا بأشباح الماضي والجريمة التي اقترفها. كانت الجزائر العاصمة التي أعرفها جيدا، بحكم المولد والنشأة، بعد الاستقلال مدينة كوسموبوليتية، فيها خليط من الأجناس والثقافات، لم نعد نلمسها اليوم، وهذا ما تحاول الرواية أن تقوله، فمقتل السيدة ”جنات” كحادثة تنطلق منها الرواية، تحيل إلى اغتيال الثقافة والقضاء على البرجوازية، وما صاحب ذلك من مظاهر الفوضى التي نعرفها حاليا في مدننا. أن تقضي على البرجوازية، يعني أنك تقتل روح المدينة.ومن بين أسباب تهميش البرجوازية في الجزائرية، كما تريد الرواية قوله، أنها كانت تمثل تجربة حياة ونضال مغايرتين، تختلفان تماما عن تجربة وخيار السلطة بعد الاستقلال. لقد وجد محفوظ عبد القادر المغراوي نفسه، بعد مقتل السيدة جنات، وهو يعيش في عالم خال من اللمسات الفنية، فالسيدة جنات هي التي جعلته يكتشف عوالم موزار (حتى أن العنوان الأول للرواية كان ”الحياة من غير دون جيوفاني”، في إشارة إلى ولع السيدة جنات بأوبرا دون جيوفاني لموزار، ليصبح في الأخير ”توابل المدينة”) ويتذوق الموسيقى الكلاسيكية، التي منحته القدرة على تجاوز لحظات مأسوية من جراء تعرض والده للمتابعة من قبل البوليس السياسي خلال السنوات الأولى من الاستقلال، رغم أنه كان ثوريا وشارك في الحرب ضد الاستعمار. وفي المحصلة أقول إنني حاكمت الجانب القمعي في الاشتراكية، وليس جانبها المتعلق بالعدالة الاجتماعية التي ننشدها جميعا. أردت استعادة روائح أيام زمان، وما علق بالذاكرة من لمسات فنية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات