+ -

 للرواية متعة مذهلة، لا تضاهيها متعة أخرى، هي متعة المزاوجة بين الواقعي والمتخيل. شخصيات الرواية وأحداثها ليست متخيلة بشكل مطلق، بل هي جزء من الحياة الدائرة حول الروائي. حتى وإن ابتكر أسمائها وبعض من ملامحها، يبقى تأثير التاريخ والمرويات وحتى الأساطير مسيطرا عليه أثناء الكتابة. فشخصية سعيد سكندر في روايتي “توابل المدينة” هي جزء من حياة جدي سعيد عبد القادر، الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، التي عاد منها سالما. مكث سنوات طويلة في مدينة براغ، وعمل في منجم للحديد، وعاش رفقة فتاة تشيكية تدعى كارينا هافليشاك في شقة صغيرة بشارع سميشوف. وقد دونت جزءا من حياته بعد الحرب، وأنا بعد دون العشرين، كان يرويها لي، وأنا جالس معه تحت ظل شجرة الرُمان.لكن متعة التخيل، وحيل الحكي الروائي، مكنتني من إعطاء جدي حياة أخرى في الرواية، حياة متخيلة تتماهى مع التاريخ، وتأخذ منه، فجعلته يعود إلى البلد منكسرا بعد وفاة عشيقته في حادث سير في قلب براغ، وهذا شيء لم يحدث في الواقع.أعطيت جدي اسما ولقبا جديدين هما “سعيد سكندر”، يعود إلى البلد بعد الحرب وتجربة الحياة في براغ، مع تخييلات عديدة، منها انضمامه إلى جماعة أصدقاء أماديوس موزارت، وولعه بالموسيقى الكلاسيكية. وعقب عودته إلى البلد يشتري محلا بشارع روندون، خصصه لبيع التوابل. وكل ما يأتي بعد هذه الوقائع يعد أحداثا متخيلة.إن التخيل والحالة هذه، لا يعد فقط ذا علاقة مع ماهية الرواية، ولذة الحكي، فهو حل يهتدي إليه الروائي لما يجد نفسه أمام معضلة “رفض الإفصاح”، و«الكشف عن الجوانب الحميمية”، فتجده يتخيل، حيث يحدث الانسداد أثناء العلاقة مع الواقعي. ومعنى التخيل هنا ليس الكذب والافتراء على القراء، بل إبداع أحداث لها صلة بالتاريخ، كما قد يكون لها صلة بما هو آني.يستمر التخيل، فيتزوج سعيد سكندر من فتاة تدعى “حضرية”، وهي ابنة تاجر كبير يدعى الحاج بكير الزياني الذي كان يحتكر تجارة التمور، ويقضي سهراته في مقهى لاريجنس المطل على الخليج. ويردد في لحظات استرخائه وهو جالس في الصالون يرتشف شايا أخضر ثقيلا بالنعناع رفقة زوجته وأبنائه الأربعة أن الحياة في مدن الغرب تساوي الحياة في الجنة، وإن اختار الإنسان لنفسه طريقة حياة، فعليه أن يختار تلك التي وجدها في مدن الثلج. لذلك كان الرجل الوحيد في حي متخيل اسمه حي الأندلس الواقع بين حي نابليون بونابرت بطرازه العمراني الأوروبي، الذي سمح لبناته الثلاث بمرافقته لحضور عرض مسرحي عنوانه “باب الشيخ” لكوميدي شهير يدعى رشيد قسنطيني. أدرك سعيد سكندر أن الناس من حوله لا يتاونون في اتهامه بارتكاب الخطأ الأكبر، والمعصية التي لا تغتفر، ويرددون أنه أصبح واحدا من هؤلاء الراغبين في الاندماج، والذين يسخر منهم عامة الناس بإطلاق اسم “المتورني” عليهم، أي ذلك الشخص المُنفّر، والحقير الذي انحرف، وتنكر لدينه، وباع أصله، وأصبح أوروبيا. لكن وقع السنوات المتألقة التي قضاها في براغ، وحياته السعيدة مع كارينا، والغبطة التي كانت تغمره، والجاذبية التي كانت تمارسها عليه الحياة العصرية، إلى حد الهوس، كلها أمور جعلته يغامر، ويقبل بكل ثقة نحو روح العصر، ففضّل المضي قدما بعد أن أقنع زوجته “حضرية” بصواب فكرته التي حازت على دعم حماه الحاج بكير الزياني. تكلم عنه أهل حي غرناطة كثيرا، وأكثروا اللغط، فأخذوا يعاتبونه لأيام طويلة، ويعلقون على سلوكه تعليقا سلبيا رغم طبائعهم البرجوازية. لكنهم سرعان ما وجدوا أن سعيد سكندر فعل ما كانوا يريدون القيام به، ويفكرون فيه خفية، لكنهم لم يكونوا يملكون شجاعته ولا جرأته.وهكذا تغيرت العقليات في ظرف قصير، فبدأت عائلات حي غرناطة ترافق بناتها للمسرح، فكتبت صحيفة استعمارية تدعى “الإمبراطور” مقالا بعنوان “الصحوة التي تهدد كيان الإمبراطورية”، فانتقل الذعر إلى موظفي الإدارة الذين أرسلوا مزيدا من المخبرين الذين يتحدثون العربية والبربرية إلى أحياء الأهالي، لترصد نواياهم بعد الزلزال الذي أحدثه قرار السيد سكندر في عقلية الأهالي. وهكذا تعود الرواية لحادثة واقعية، أوردها محفوظ ڤداش في كتابه “الحياة السياسية في العاصمة خلال ثلاثينيات القرن العشرين”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: