+ -

 بعد أن سمعت إعلانا إذاعيا عن مسابقة أحسن عمل صحفي مخلد للثورة المجيدة اشتغل خيالي وصرت أنا صاحبة المائة مليون سنتيم، الجائزة التي كانت تغازل ديوني الكثيرة، لمَ لا ولي كل الوقت لأكتب مقالا حجمه 1500 كلمة كما هو مطلوب. بدأت رحلة البحث عن موضوع متميز لم يخض فيه أحد من قبل، وهذا قد يكون السبب الأول للفوز.. أخذت مجموعة كتب من المكتبة المنزلية التي تحتوي دون مبالغة على 300 كتاب على الأقل عن تاريخ الجزائر، وللأمانة هي كلها لزوجي الذي قرأ عن تاريخ الجزائر ما يكفيه للحصول على شهادة دكتوراه إن لم أقل أكثر في هذا المجال، وطبعا لم أستغني عن حبيب الإعلاميين الجزائريين غوغل.. قرأت وقرأت وقرأت، حتى دوختني الثورة الجزائرية، وفي الأخير خلصت إلى موضوع “عبقري” استخلصته من قول للمرحوم شريف مساعدية: “إن الأجيال الصاعدة لن تكون خير خلف لجيل نوفمبر ما لم تتخلّق بأخلاقه، ما لم تتحل بخصاله وصفاته، ما لم تتأمل صادقة في سلوكه”. سطرت على كلمة أخلاق وكلمة صادقة، ورحت أتفلسف وأطرح الأسئلة وأضع إشكاليات، مقتنعة أنه سيكون سبقا صحفيا، ورحت ألهث مرة أخرى وراء كل ماله علاقة بالموضوع، منتظرة أن يتحرك قلمي ولو مسافة سطر، لكن دون جدوى.. انتظرت حتى تتخمر المعلومات التي قرأتها دون نتيجة، إلى أن قررت الكلمات أن تولّد بعد مخاض عسير، رحت أسوقها إلى موضوع المسابقة، لكن الحروف كانت تقودني إلى موضوع آخر، كانت تهزأ بي وقالت: تركت الموضوع الأهم وتكتبين عن أخلاق جيل نوفمبر، الموضوع محسوم يا عزيزتي، ضيعوا التاريخ وأصبحوا يشحذونه منكم، يريدون أن يشتروا تاريخكم لأنهم باعوه، إياك أن تبيعيهم حرفا أو جملة، أتركي تاريخ الجزائر لك، وأخلاق جيل نوفمبر لك، وحاولي أن تنقذي أغلى وأعز شيء من تحت أقدامهم قبل فوات الأوان، أتعلمين ما هو؟ إنه دم الشهداء الذي يسقي هذه الأرض الطيبة، ادفعي من مالك لتسترديه، اسقي به أحلامك وآمالك في وطن التاريخ فيه ليس سلعة، والعزة والكرامة ليست شعارا، والأمن والاستقرار ليس كذبة، وحب الوطن وخدمته ليس كرسيا. أتعلمين، في الجزائر كرسي السلطة بعجلات، السلطة الوحيدة التي واكبت عصر السرعة، ليس لديها وقت تضيعه، تخاف أن يمر الوقت قبل أن تبيع التاريخ خاما وتشتريه معلبا بصلاحية استهلاك أطول، السلطة الوحيدة المتحركة دون أن يتحرك شيء.. أردت أن تكتبي عن صدق جيل نوفمبر ولم تفكري في صدق هذا الوطن معنا؛ هو الوحيد الذي يفضل أن يقرضنا التاريخ بدل الأموال وينتظر منا أن نسدد الدين بتاريخ أجمل وأكبر وأروع، نعم هو يؤمن بالربا في استرداد تاريخه والرشوة في التضحية من أجله، ومستعد أن يركّب أجنحة لكرسي السلطة حتى يطير به إلى بر الأمان، ومستعد أن ينحني لأي أحد منا شرط أن نبادله الشعور نفسه.أتعلمين لو لم يكن جيل نوفمبر صادقا مع نفسه أولا، لما استمرت الثورة، ولو لم يكن صادق الإرادة والعزيمة لما سقط هذا العدد الكبير من الشهداء لتسمى الجزائر بعدهم الأرض الطاهرة؛ هؤلاء الشهداء كانوا بشرا مثلنا، لديهم طموحاتهم الكبيرة في أن يخلد التاريخ أسماءهم، لكنهم دفعوا أرواحهم ثمنا لذلك؛ هؤلاء الشهداء كانوا بشرا مثلنا لديهم أحلامهم الصغيرة والجميلة والرقيقة، كم أتمنى أن أعرف كيف كانت عروس أحلام زيغوت يوسف، وأن أركب مع بن بولعيد سيارة أحلامه الفاخرة، كم أتمنى لو كنت أجالس حسيبة بن بوعلي حتى تحكي لي قصة غرامها وأزور ديدوش مراد في قصره الفاخر ضواحي حيدرة.أحلامهم الوردية استهزأوا بها، سخروا منها وفضلوا أن يركبوا عجلة واحدة هي عجلة التاريخ ليلحقوا بركب العظماء، هذا كله لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم، صادقين مع قضيتهم، صادقين مع وطنهم هذه هي أخلاق جيل نوفمبر.. وأنت كوني صادقة مع نفسك وقولي ماذا أردت أن تكتبي.منذ البداية كنت صادقة وقلت أريد المائة مليون.سدّد اللّه ديونك.وسدّد اللّه يا حروفي خطاك.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات