لقد كان الفيلسوف الكبير والكاتب الفرنسي السويسري يقول: [إنّ البشر انتقلوا من حال الهمجية والعزلة إلى حال الحياة الاجتماعية باتفاقهم ورضائهم أو بما كان يسمّيه ”العقد الاجتماعي” وإن كان غير مكتوب]. وردّ بعض العلماء على نظرية ”روسو” قائلين: [إنّ الإنسان اجتماعي بطبعه، ولا يُعرف عصر كان فيه البشر معزولين بعضهم عن بعض، يعيشون كما تعيش الحيوانات الوحشية ثمّ تعارفوا وتعاقدوا على الحياة المشتركة والخضوع إلى سلطة واحدة]. ولو أنّ ”روسو” قرأ أخبار الهجرة النّبويّة إلى المدينة المنورة لرأى فيها دليلًا على صحّة نظريته، مع تعديلها قليلًا بحيث يُقال: إنّ البشر الّذين كانوا يعيشون في مجتمعات قبلية استطاعوا أن يتحوّلوا إلى ما يُشبِه الدولة العصرية بعقد اتفقوا عليه. وإذا أمعنا النّظر في صحيفة يثرب نجدها تكشف لنا عن العمل الكبير الّذي أتمّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتوحيده قبائل المدينة وجعلها أمّة واحدة، لها حَكم أعلى هو الرّسول نفسه صلّى الله عليه وسلّم.. ولكن هذه الصّحيفة لا تكفي وحدها في إعطائنا صورة واضحة عن السلطة العامة الّتي كانت تدير الأمور في المدينة، ومن الحقّ أن نقرّر أنّ هذه السلطة العامة لم تستكمل عناصرها فجأة ودفعة واحدة، وإنّما تمّ ذلك تدريجيًا، شأن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في كلّ أعماله المباركة.
كان أوّل ما أنشأه النّبيّ في المدينة من أجهزة الإدارة جهاز الكتاب، يكتبون له الوحي والرّسائل إلى الملوك والحكّام والنّاس. وكذلك نظّم أمور الجيوش الغازية وما يتبع ذلك من قسمة الغنائم وأناب عنه في الصّلاة بالمسلمين مَن يقوم بها خلال تغيبه في غزوة أو غير ذلك. ولمّا تمّ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتح بلدان متباعدة، أرسل إليها عمّالًا يُعلِّمون النّاس الدّين ويقضون بينهم وفق أحكام الشّرع ويقبضون الزّكاة ويؤمّون النّاس في الصّلاة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات