الاعتراف بدولة فلسطين.. تصفية للقضية وإنجاح للفشل!

+ -

 ما يزال النقاش حول نظرية المؤامرة قبولا ورفضا محتدما، ولكن أحسب أنّ أحدا لا يخالف في أنّ فلسطين كانت ضحية مؤامرات دولية متتالية! وحتى نخرج من شرك الاصطلاح؛ فلنقل إنّ الغرب الإمبريالي الذي أسس الكيان الصهيوني كنقطة متقدمة لتحكّمه في المنطقة لا يفتأ يخطط ويجدد خططه لتوجيه الأحداث المتعلقة بالقضية بما يحقق مصالحه حسب تقديره! فإذا اتفقنا على هذا القدر فليسمّه من شاء منّا بما شاء!وهنا لا بد من النظر إلى هذا الاعتراف السخي بدولة فلسطين من قِبل دول الاتحاد الأوروبي- والذي ابتدأ بالاعتراف السويدي- بنظر الريبة والشكّ. فممّا لا ريب فيه أنّ هذه الاعترافات لم تأت في هذا التوقيت اعتباطا واتفاقا من غير تنسيق بين هذه الدول، وانخراط بريطانيا أم إسرائيل الفاجرة، وفرنسا مرضعة إسرائيل الأولى في هذا المسار يزيد الشكوك قوة والريبة رسوخا!إنّ خطورة هذا الاعتراف تنبع من كونه مبنيّا على مغالطة كبيرة ومؤامرة خطيرة تعمل على تصفية القضية، ذلك أنّه مبنيّ على نظرة استعمارية تسوي بين المجرم (الصهاينة) والضحية (الفلسطينيين)، وحتى وزيرة خارجية السويد عند إعلانها الاعتراف قالت: هذه الخطوة تحقق التساوي بين الطرفين! وهنا مربط الفرس؛ لأنّ التسليم بهذه التسوية هو إنهاء للقضية بظلم عظيم. ومن جهة أخرى، هو مبنيّ على نظرة استعمارية تعطي لإسرائيل الحق في أراضي الـ48 وتسقط حق العرب فيها، ولا تعطي للفلسطينيين الحق إلاّ في أراضي الـ67 ليقيموا عليها دولة محدودة الصلاحيات تحت الوصايا الإسرائيلية؛ فيكون هذا الاعتراف هو قرة عين الصهاينة يحقق لهم ما يحلمون به في نومهم ويقظتهم: الاعتراف بدولتهم، وحقّهم في أراضي الـ48، وإسقاط حقّ العودة للفلسطينيين، وتقسيم القدس. مع ما ينتج عن ذلك من إنهاء المقاومة وتوسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية؛ وهذا كلّ ما تصبو إليه إسرائيل، وهل تريد أكثر من ذلك. ودع عنك تصريحات الاستهجان من بعض المسؤولين الصهاينة فهي من أساليب الاستعمار في استغفال الأمم! ولا تعجب من تصريحات رام اللّه فهم يرون في مثل هذه الاعترافات طوق نجاة لمسارهم الفاشل، مسار أوسلو والمفاوضات الاستسلامية، كما لا تعجب لتصريحات حماس الترحيبية به إذ لا خيار لهم، إذ ظاهر هذا القرار لصالح الفلسطينيين ولا يليق بحركة مقاومة أن تتنكر لموقف يظهر أنه في صالح قضيتها- خاصة وهي محاصرة ماديا ومعنويا- ولكنه موقف ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب والتآمر!إنّ الصهاينة وحلفاءهم رأوا بأنّ الوقت مناسب لتصفية القضية؛ فوضع الدول العربية والإسلامية في هذه الفترة يضمن لهم أن لا ردة فعل لا شعبيا ولا رسميا، ولهذا يحاولون استغلال الظرف قبل تغير الأحوال، وهذا ما يفسر ما يحدث في القدس من تهويد للمدينة وتمادٍ في الاستيطان، وتهجير للعرب وهدم لمنازلهم واغتصاب لملكياتهم، واقتحام للأقصى وتدنيس لساحاته، وكلام على بناء الهيكل، ومشاريع قوانين لتقسيم القدس.. كل هذا ليس اعتباطيا بل هو جس للنبض، ومحاولة لفرض الأمر الواقع.والذي شجع على تسريع هذا المشروع (مشروع الدولتين وتقسيم القدس) هو الوضع الإقليمي والدولي، والذي إذا أخذنا أحداثه متكاملة وركبنا منها المشهد الكلي، ولم نتعامل معها على أنها تفاريق وأجزاء بل أجزاء لصورة واحدة، وتتبعنها على أنها أحداث مترابطة لا على أنها أخبار متعاقبة تبين لنا كيف أن هذا الاعتراف بدولة فلسطين تصفية للقضية وإنجاح لفشل المفاوضات وأوسلو. فانقسام الدول العربية أمر ليس بالجديد وخيانة بعض هذه الدول كذلك، لكن دعمها لإسرائيل علنا كما حدث في حرب غزة سابقة لا يريد الصهاينة تفويتها، وهذا ما أكده خطاب نتانياهو في الأمم المتحدة لمّا قال مفتخرا: أن كثيرا من الدول العربية اكتشفت أن لها مصالح مشتركة كثيرة معنا! واضطراب الأمر في أغلب دول المشرق العربي يشغلها بنفسها ويحيدها عن التأثير في أي صراع مع إسرائيل وهي أضعف من أن تقوم بأي عمل ضدها. كما أن الحرب على الإرهاب التي يخوضها التحالف الدولي يعطي الصهاينة غطاء عسكريا كبيرا، كما يضمن عدم اندلاع أي حرب في المنطقة عدا حربه المزعومة! والأهم من هذا كلّه ما يقوم به النظام الانقلابي في مصر من حرب لا هوادة فيها على الحركة الإسلامية والشعب المصري بعامة، وعداؤه الشديد للمقاومة والشعب في غزة، وها هو يتجاوز كلّ الخطوط ويرتكب جرائم ضد الإنسانية أمام سمع العالم وبصره بتهجير أهل سناء وهدم بيوتهم واقتلاعهم من أرض أجدادهم خدمة لإسرائيل، وحصارا لغزة والمقاومة فيها، وإمعانا في الظلم والتفرعن. ولن استبعد أن يقصف الجيش المصري غزة، وهذا ما تشدد عليه أبواق إعلامه الفاجر منذ مدة، وهذه الكائنات الإعلامية كما هو معلوم لا تتكلم من عندها بل يملى عليها ما تقول إملاءً، فهم يكررون كلامهم عن قصف غزة لأنّ ما تكرر تقرر، تحضيرا للنفوس وتهيئة للناس، وقد يكون الهجوم بالتحالف مع عباس بدعوى فرض سلطة الدولة الفلسطينية على القطاع، وهناك تحاصر المقاومة: فإمّا أن تسلم سلاحها وإمّا أن تحاربهم؛ فتعلو أصواتهم تشويها وإنكارا على قتل الإخوة العرب!.. ومهما تطورت الأحداث فيبقى الأمر المؤكد أن حق الفلسطينيين لا يرجع باعترافات مشبوهة من دول هواها مع الصهاينة، بل بمقاومة صادقة، فلن تتحرر فلسطين إلاّ إذا سارت على طريق الجزائر!

إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات