+ -

 المتتبع للمسار السياسي في تونس قبل الانتخابات البرلمانية يدرك أن حركة النهضة الإسلامية كانت هي المرشح الأول للفوز بهذه الانتخابات، وذلك قياسا بعدد الاجتماعات الشعبية التي عقدتها، وكذا الحشد الجماهيري الذي عمدت هذه الحركة إلى تعبئته، ضف إلى ذلك تغلغلها في العمق التونسي، خاصة في الأحياء الشعبية الفقيرة، بينما حزب “نداء تونس” العلماني لم يكن له الزخم السياسي نفسه الذي حظيت به حركة النهضة، وكانت اجتماعاته محتشمة. فالأرقام كلها كانت تشير إلى أن نهضة الغنوشي ستفوز بالانتخابات وبفارق مريح، إلا أن الناخب التونسي قلب كل التوقعات ومكّن حزب نداء تونس من الفوز بالأغلبية البرلمانية.وفي قراءة للمشهد السياسي في تونس يبدو أن المواطن التونسي عاقب حركة النهضة على عدم التزامها بوعودها، من وعود اجتماعية واقتصادية بالإضافة إلى هشاشة الوضع الأمني في البلاد، وتساهلها مع بعض الحركات الإسلامية المتطرفة، ضف إلى ذلك الاغتيالات السياسية التي حدثت إبان حكم هذه الحركة، والتي استهدفت نخبة من السياسيين، على غرار شكري بلعيد ومحمد براهمي، دون أن ننسى التأثيرات الإقليمية وفشل الإسلام السياسي في معظم بلدان ما يسمى “الربيع العربي”، الأمر الذي جعل التونسيين يراجعون خياراتهم السياسية، وهذا ما انعكس على أصواتهم التي ذهبت إلى حزب الباجي القائد السبسي.وقد أظهر الناخب التونسي درجة كبيرة من الوعي السياسي، ولم ينسق وراء الوعود البراقة التي حاولت بعض الأحزاب تسويقها للتونسيين، حيث قرر بطريقة راقية عقاب هذه أحزاب، على رأسها أحزاب الترويكا الممثلة في حزب “النهضة” و”المؤتمر” و”التكتل”، والتي أدارت المرحلة الانتقالية في تونس، هذا المثلث الذي أثبت ضعف أدائه السياسي بدليل النكسات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها تونس خلال فترة تولي هذه الأحزاب للحكم. لكن ما يحسب لحركة النهضة، خلال فترة حكمها، أنها قامت باحتواء الأحزاب العلمانية ولم تحتكر المشهد السياسي، بل إنها قدمت تنازلات كبيرة في سبيل خلق إجماع وطني، وهي بذلك دحضت كل المحاولات الرامية إلى إسقاطها سياسيا، واستطاعت أن تقدم صورة راقية عن إمكانية تشارك جميع الفصائل السياسية في الحكم، بما فيها التيارات الإسلامية والعلمانية، وهذا ما تجسد في الدستور التوافقي، الذي مهد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، أرّخت لميلاد دولة ديمقراطية حديثة تقوم على الحرية والمساواة، ودون إقصاء لأي فصيل سياسي، واستفراد أي فئة معينة بالسلطة، وبذلك تم دق آخر مسمار في نعش الديكتاتورية.  نجاح العملية السياسية في تونس أكد، بما لا يدع مجالا للشك، أنه يمكن أن تكون هناك ديمقراطية حقيقية في الوطن العربي، وهذا إذا ما سمح للشعوب بالتعبير عن خياراتها. ومن دون شك ستظل التجربة التونسية مثالا حيا على إمكانية بناء مجتمع ديمقراطي تشاركي، رغم الاختلافات الإيديولوجية وبغض النظر عن الانتماءات السياسية، مجتمع يكرس لدولة العدل والمساواة بين جميع أبناء الوطن الواحد.

[email protected]

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات