قال ابن الأثير في ”أسد الغابة”: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِل عن زيد بن عمرو بن نفيل وهو من أبرز الحنفاء، فقال ”يُبعث أمّة وحدهُ”، وكان يتعبّد في الجاهلية ويطلب دين إبراهيم الخليل ويوحّد الله ويقول ”إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم”، إلى آخر الحديث.وهذا مؤشّر آخر لتلك الصّلة بين سيّدنا محمّد المبعوث بالحنيفية السّمحة وجماعة الحنفاء. أجل إنّه الإعلان الّذي يوحي بالشُّكر، ويشير بالثّقة، ويفيض باليقين، اليقين في بناء العبادة اللّفظي ودلالتها المعنوية والثّقة بالصّلة الهادية، صلة الرّبوبية الموجّهة المهيمنة الرّاعية، والشّكر على الهداية إلى الصّراط المستقيم الّذي لا التواء فيه ولا عوج {دِينًا قَيِّمًا}، وهو دين الله القديم منذ سيّدنا إبراهيم خليل الرّحمن، أبي هذه الأمّة المباركة المُخلِص المُنِيب عليه السّلام {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.إنّ ذلك يؤكّد الارتباط الواقعي بين الإسلام والحنيفية بوصف كونها تيارًا دينيًا فكريًا ظهر في منطقة زراعية (اليمامة) وصار لهذا التيار مبشّرون في المناطق المستقرّة من الجزيرة العربية، وفي مكّة ذاتها بالأخصّ وكان المبشّرون به أشخاصًا ذوي شأن مرموق في أهل الجاهلية، وكان ظهور هذا التيار شكلًا من التّعبير عن التّغييرات المستجدة في أسس العلاقات الاجتماعية لمجتمع الجاهلية، بمعنى أنّ تيار الحنفاء هو ذاته كان يشكّل ظاهرة من مجموعة الظّاهرات المتشابكة النّاشئة عن ذلك الاتجاه العام لحركة المجتمع الجاهلي نحو تغيير لا يقتصر على أسسه المادية، بل من الحتم أن يتناول أيضًا حقل الوعي الاجتماعي بشكله التاريخي حينذاك وهو الشّكل الدّيني.إنّ هذه النّظرة إلى العلاقة بين ظهور الإسلام وظروف تلك المرحلة من تاريخ العرب، بل تاريخ المجتمعات الأخرى القريبة من جزيرة العرب لهي نظرة تكشف عن الجذور الاجتماعية والمعرفية للمهمّات الكبرى الّتي كان على الإسلام أن ينهض بدوره التقدمي في تحقيقها لتغيير خريطة الواقع الاجتماعي والواقع المعرفي لأكثر من مجتمع واحد في أكثر من قارة واحدة خلال القرون الوسطى كلّها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات