زيارة أردوغان.. نظرة علمية أكاديمية

+ -

 ترتبطُ الأهداف والمصالح الوطنية في العلاقات الدولية بالنوايا والدوافع التي تحاول الدولة التستر عليها وعدم الإفصاح عنها، ما يجعل تتبعها ودراستها بالنسبة للأكاديميين أمراً ينطوي على صُعوبات أحيانا، ويخضع للاجتهاد أكثر مما ينبني على الحقائق المؤكدة والثابتة في أحيان أخرى. ولعل مرّد ذلك يعود إلى طبيعة الفارق بين ما تعلنه الدول من أهداف وبين ما تعتنقه وتتبناه في الـواقع، أو بين ما يقال وما تهدف تصرفات الدولة إلى إنجازه فعلا. وعليه فإنّه لمحاولة فهم الأسلوب الذي تتعامل به الدول مع بعضها، على غِرار الجزائر وتركيا، ينبغي إدراك أمرين مهمين على الساحة الدولية. الأول: الأهداف التي تسعى الدول إلى تحقيقها والمصالح التي تعمل على حمايتها، والثاني: الإمكانيات والقدرات التي في متناولها والتي تعدّ ضرورية لبلوغها أهدافها. وبمعنى آخر مدى التناسب بين عاملي الأهداف والإمكانيات، ذلك أنه بمقدار هذا التناسب تتحدّد قدرة الدولة على تحقيق الأهداف الخارجية التي تقررها لنفسها.ويبدو من خلال زيارة الرئيس التركي، طيب رجَب أردوغان، للجزائر أتت في وقت مهم جدّا بالنسبة للبلدين، حيث كشفت الزيارة الأخيرة له لما كان رئيسا للوزراء إلى الجزائر عن نجاح في توطيد العلاقات بين الدولتين والتوقيع على عديد الشراكات الإستراتيجية، حيث بلغ حجم التبادلات منذ 2006 إلى 5 مليارات دولار، كما أن لهذه الزيارة جوانب إيجابية وأخرى سلبية، فلقد جاءت في ظروف صعبة تمر بها المنطقة في ظل عدّة أزمات وصراعات وبالتحديد الأزمة في ليبيا، وجزء من هدف هذه الزيارة هو الدفع والدعم السياسي لكل من تركيا والجزائر.لقد أعجبتني المساهمة العلمية التي تفضل بها الأستاذ سفيان أبو أمير في مقال نشر له يوم الجمعة 14/11/2014 عن موضوع الجزائر وتركيا في مقارنة ومقابلة ممتازة بين المشاكل الإقليمية والمماثلة للبلدين والحلول المختلفة، لما قام بطرح مجموعة من الإشكاليات، مثل قوله: هل ذلك يعود للحِنكة السياسية لرئيسي جمهورية البلدين؟ أم يعود إلى ثوابت السياسة الخارجية للدولتين؟ فبين ثبات المبادئ وتغير المصالح بالنسبة للدولتين أثير الإشكالية التالية: ماذا نريد في علاقتنا المستقبلية مع تركيا؟ على الأقل من الجانب العلمي الأكاديمي، لأن ما لا يدرك كله، لا يترك جله كما يُقال، فتركيا دولة استطاعت أن تقيم نهضتها الصناعية والاقتصادية على أساس التعليم والبحث العلمي، وكيف يمكن نقل التجربة العلمية التركية إلى الجزائر وكيف استطاعت الجامعات الأهلية في تركيا أن تقيم هذه النهضة العلمية التي تفخر بها. وكيف استطاعوا بناء 137 جامعة في الفترة من 1982 وحتى 2010 وكيف يخططون لإنشاء 500 جامعة قبل نهاية سنة 2020. والأهم كيف استطاعت مؤسسات الفكر الإستراتيجي ورجال الأعمال الأتراك المُساهمة في عملية تنمية وتطوير البحوث داخل المؤسسات العلمية. وكذلك الاستفادة من كون تركيا لديها اتفاقيات علمية بين معظم جامعاتها وبين جامعات العالم في أوروبا وأمريكا واليابان، وكنا نوّد أن تتم مناقشة إمكانية أن تكون الجزائر طرف ثالث في هذه الاتفاقيات بالإضافة إلى السياسة العامة والجماعات المحلية، فهو مجال هام نجحت فيه تركيا وشهد بذلك الكثيرون وكنت أتمنى أن يتفق الجانبان على تنظيم زيارات ميدانية تقوم بها مجالس المحافظات ومجالس المدن والقرى والتوأمات بين المدن قصد الاستفادة من التجربة التركية الناجحة في هذا المجال الحيوي.مع العلم أن في تركيا اليوم اتجاهين أولهما يحمل نظرة بها قدر من الشك والريبة وعدم التفاؤل للعلاقات مع العرب بصفة عامة، وينتج ذلك عن خلفية تاريخية يراها كل من الطرفين التركي والعربي غير مشجعة. فالكثير من الأتراك يرون أن الالتصاق بالعرب يؤدي إلى الرجعية ويعوق النهضة، فهم يرون أنهم وقفوا بجانب العرب مئات السنين لحماية الإسلام والمسلمين وكانت نتيجة ذلك الخيانة.وعلى الجانب الآخر يرى العرب أن الدولة العثمانية كانت سببا مباشرا لتدهورهم لسنوات طويلة. ميراث تاريخي سلبي شجعته الحكومات العربية الاستبدادية التي كانت تدعم هذا الاتجاه السلبي في العلاقات مع تركيا، مما لم يساعد الأتراك على تغيير هذه النظرة. أما الاتجاه الثاني وهو البراغماتي المغلف بدفء المشاعر نحو الماضي ونحو الإسلام، ومفاده أن الاقتصاد والتطور لا يجب أن يستبعد أي تعاون مع العرب ويقود ذلك الاتجاه العلمانيون داخل حزب العدالة والتنمية لأردوغان وعبد اللّه غول وأوغلو، ويستجيب له الرأي العام في تركيا.وهناك مشكلة أخرى، وهي أن الشعب التركي لا يعرف لغة ثانية وأنه قد انقطعت الصلة بينهم وبين اللغة العربية منذ أيام كمال أتاتورك حتى أتى حزب العدالة والتنمية وبدأ يدرك المشكلة وضرورة حلها وخاصة في إطار الاتجاه نحو التعاون العربي. وهو ما يدعو لإرسال أساتذة للغة العربية من الجزائر لتعليمهم اللغة العربية فهي لغة القرآن التي يدين به أكثر من 99 بالمائة من الشعب التركي، فلماذا لا يتم الاتفاق بين الجانبين لإرسال عدد من الأساتذة والأئمة الجزائريين إلى هناك كخطوة أولى في طريق التعاون العلمي والثقافي؟إنّ توطيد أواصر العلاقات الثقافية بين البلدين هو النسيج والمَعبر لكل الأواصر الأخرى السياسية والاقتصادية وغيرها، وهي المدخل لأي علاقة ناجحة بين البلدين. فنحن بحاجة إلى ترجمة كتب كبار المؤلفين إلى التركية، وكذلك شباب الكتاب والشعراء. ومن الضروري جدا إحياء الجوانب الإيجابية في التاريخ المشترك، مثل فكرة الأوقاف المستوحاة من الدولة العثمانية. والأتراك بذكائهم استطاعوا تطويرها والاستفادة منها، وأصبح لها دور ثقافي واجتماعي كبير، بينما توقف في الجزائر دورها الفعلي وتعرضت للسرقة والنهب. وهنا أود أن أحذر من أحادية التأثير، وهو ما يتجلى في غزو المسلسلات التركية لبيوتنا بينما لا نرى مسلسلات جزائرية مترجمة ومقدمة للجمهور التركي، وهو ما يضرّ بالعلاقة لأنه سوف يجعل هناك طرفا أقوى من الآخر، وبالتالي يؤثر في الجوانب الأخرى السياسية والاقتصادية طبعا.وفي ظل التغيير الذي يحدث في الجزائر وفي المنطقة ككل، فإن مستقبل العلاقات الجزائرية التركية يقتضي توسيع اللقاءات بين الجانبين والتحضير العلمي الممنهج لاتفاقيات حقيقية تخاطب صالح البلدين على نحو عادل يضمن استقرار وعمق استمرار العلاقات بأجندة بها المتطلبات الكاملة في علاقتنا بتركيا مع الإقرار بالاحترام الكامل لدور هذه الدولة في المنطقة وفي العالم ككل، وعدم الانحراف عن مسَار النِدية والمنفعة المتبادلة[email protected]دايد محمّدزين العابدينجامعة البليدة 2

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات