+ -

 تبّت يد أنظمة بلدان المنطقة، إنها لم تفشل فقط بل جعلت الوضع عقيما. فعلا، كيف نفهم هذا الفراغ الرهيب وهذا العقم الذي يطبع هذه المنطقة كلّها من مشرقها إلى مغربها؟لا وجود اليوم لأي فكرة سياسية لأي حلم وطني أو قومي، حتى الحلم في إحياء الدين وقيمه تبخر. قال جون ستيوارت ميل (1806-1873) منذ قرن ونصف: إن السوق الحر للأفكار أمر ضروري حتى يتمكن المواطنون من الفصل بين الأفكار الجيدة وتلك السيئة.الحلم الوطني والقومي والاشتراكي والثوري قتلته أنظمة ما بعد الكولونيالية في صراع إرادات خاضته من دون إشراك شعوبها، إلا بالخطاب والتحريض، فخسرت المعارك الأساسية وماتت بلا صخب، والحلم “الإسلامي!” اغتالته ميول العنف والمشاركة أو التورط في استراتيجيات دولية لمحاربة القوميين والاشتراكيين والوطنيين. أما اليوم فالخواء الصارخ وهيمنة الرداءة والتبعية والفشل. المعضلة أن الفراغ الذي أحدثته أنظمة الرداءة والفساد، واستراتيجيات أخرى خضعت لها أو تعاونت معها عن وعي أو من غيره، ملأه العنف والدم، ملأه الظلال والتيه، ملأه الخنوع والاستسلام.اليوم نعيش زمن أنظمة غاوية بالية مريضة، فارغة، ناهبة، مزوَّرة، تابعة، متهاوية، ليس هناك وصف لا تأخذ هذه الأنظمة شيئا من معانيه. أفقدتنا هذه الأنظمة القدرة على التفكير وأفقدتنا معاني الكلمات والمصطلحات، فلا الوطنية ظل لها معنى ولا الديمقراطية ولا الليبرالية، ولا بقي هناك معنى للاشتراكية والعدالة الاجتماعية ولا للنضال ولا للإحياء الإسلامي، ولا لأي فكرة أخرى، لا في اليمين ولا في اليسار، لا في الأصالة ولا في الحداثة. قد يرد بعضنا بالقول: إن الزمن ليس زمن الإيديولوجيات، ولكن هل هناك مشروع مجتمع أو مشروع بناء دولة يمكن أن يقوم من غير لحمة فكرية أو مرجعية فلسفية؟إن الأنظمة البالية وهيمنة النهب المنظم لثروات الشعوب، وشيوع الرداءة وتمدد العولمة زوَّرت العقول وعطّلتها وأفرغتها من كل معنى ومن كل فكرة، وجعلت الدينار والدولار يطرد الفكرة والرأي والخبرة ويطرد المشاعر ويقتل القلوب والضمائر. كيف نسقط هذه الأنظمة الطاغية الباغية؟ وكيف تعود النخب إلى دورها وإلى إنتاج الأفكار وكيف الخروج من الرداءة ومن السفاهة والفساد؟ تلك معضلة من معضلات اليوم.لهذا فالمشكلة اليوم ليست: أي برنامج هو الأصلح؟ المشكة اليوم هي كيف نجعل بلداننا بستانا خصبا تزدحم فيه كل الأزهار والورود، كل الآراء والتقديرات، كل المعاني والمدارس والتيارات وتتلاقح. الوضع اليوم عقيم عقم هذه الأنظمة الجاهلة القمعية الفاشلة الفاسدة. الوضع في حاجة عاجلة لبداية جديدة، في حاجة لإعادة التأسيس، وإعادة التأسيس. هي بداية تبنى جماعيا أو لا تبنى. هي تحدٍ يواجه جماعيا أو لا يواجه. هي رهان يربح جماعيا أو لا يربح. ومن هنا تأتي أهمية وضرورة بناء توافق جديد، فالزمن، يمكن أن نقول، ليس زمن التنازع والتصادم الإيديولوجي، ولا حتى السياسي، لأنه يتأكد يوما بعد يوم أن الزمن زمن التأسيس، ويتأكد أن السبيل الأقصر والأأمن هو التأسيس بالتوافق والتراضي.لا فائدة من مواصلة التيه في تفاصيل من الذي يقود، ومن الذي يملك الرؤية الأفضل، ومن كان على حق، ومن كان على باطل، ومن يناور ومن يناضل، لأن التجارب أثبتت، في كل هذه المنطقة، أن ذلك ملهاة وضياع وتيه لا جدوى من ورائه، لا بد أن ينصب الاهتمام، اليوم، جماعيا على: بداية جديدة على فعل إعادة التأسيس، وعلى كيف نتوافق، وكيف نغير، وكيف نسقط هذه الأنظمة من غير عنف، وخاصة من غير انهيار ما بقي من الدولة، وكيف نبني دولة المؤسسات ودولة سيادة القانون، وكيف نصيغ الدساتير المناسبة، وكيف نضع الترتيب المؤسساتي الفاعل والفعال، وكيف نضع البرامج وكيف نواجه الاستعمار. لهذا البداية جماعية وتوافقية أو لن تكون. تبّت أنظمة الفشل والجهل، فتصحيح ما أوصلت إليه بلدان المنطقة معقد جدا ومكلف جدا، حتى إن توفرت الإرادة الجماعية، فما بالك إن لم تتوفر، وما بالك إن دفعت أيدي المصالح الداخلية والخارجية وهوس السلطة إلى مزيد من الصراعات الدموية وإلى الانهيار الشامل؟[email protected]

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات