من باب الفضول تتبعت حصة بثتها، نهاية الأسبوع الماضي، قناة “اليتيمة” في نقل مباشر من القاعة البيضاوية. إشعاع ضوئي وموسيقي ذو قيمة وجمهور ببذلات أنيقة وفتيات هن أيضا أنيقات وجميلات.. يصعد شخص على الحلبة، شخص يرتدي بذلة وربطة عنق وقبعة. يشرع في الحديث بالفرنسية، ويعرج على التاريخ في وقفات اختارها في مرجعيتها الخاصة، دون الإشارة إلى البعد العربي الإسلامي الذي يشخّص الثوابت الوطنية. الرجل يدعى جمال علام، هو نفسه شاهدته منذ سنوات في القناة نفسها وهو يتجول في أسواق تيميمون وهو يتحدث مع المواطنين هناك وكأنه عالم أنثروبولوجيا اكتشف فجأة كائنات غريبة. فتعامل معهم بالطريقة نفسها التي كان يعاملنا بها المعمّر قبل 60 سنة. إذن المدعو جمال هذا يخاطبنا بصفته رئيس “ميوزيك أوارد” (الجائزة الموسيقية)، أي أن الأمر يتعلق بالجائزة الكبرى للموسيقي في بلادي. وفي الصفوف الأمامية جلس وزير الاتصال ومديرو القنوات العمومية والصحف والاتصالات وفنانون وفنانات. ثم شرع المغنون في الأداء؛ أصوات مثل تلك التي نسمعها في بعض القنوات الشبابية الجزائرية، مثل “جيل أف أم”، هو ليس بغناء وليس بعويل وليس بنقيق، نسميه غناء ذا طابع خاص، إن شئتم. وتتواصل الحصة والثنائي الذي ينشط يبدع في الارتجالية، والهدايا توزع، والحضور يصفق بلا هوادة. ويصعد ساحر، في يده كأس ويشرع في البحث عن الوزير الوحيد الأوحد الذي حضر الحفل، فيعطي الكأس لغير الوزير ويقوم هذا فيسلّم الكأس للوزير وتتواصل السهرة.. وبعد تسليم الهدايا والتصفيقات، يصعد من جديد المدعو جمال علام ويشرع ثانية في طمس التاريخ، يقفز فوق محطات التاريخ... وينقطع الصوت. فكرت وقتها في يد وطنية لم تطق مثلي التحريف فقطعت الصوت. ثم عاد الصوت وواصل الشخص ذاته مسرحيته، بالفرنسية من فضلكم. بقيت مشدوها مما شاهدت. لم أفهم هل أنا هرمت، إذ لم أعد أتذوق الفن الراقي في بلادي؟ أم أنهم جنوا جميعا ليصنعوا من الفن عويلا. حتى أغنية عبد الحليم حافظ غنتها فتاة بالعويل.. قطعت على نفسي ألا أشاهد “اليتيمة” بعد اليوم وقد رسخت في ذهني قناعة أن من سمح بهذه المهزلة على القناة الرسمية الجزائرية... فيا حكام ويا صناع القرار، ويا من يسير هذه القناة التي تعيش من ضرائبنا، ليست هذه الرسالة التي ضحى من أجلها بن مهيدي وبن بولعيد ولطفي وبوڤرة وغيرهم من الأرواح الطاهرة. هؤلاء جميعا ضحوا من أجل أن تكون الجزائر رائدة، تشق طريقها بين الأمم. وليس بهذا التقليد الأعمى لقنوات غربية لها جمهورها وتقاليدها. فكم كان الفن راقيا ونبيلا في بلادي بداية الستينيات، عندما كانت الشعلة تضيء الطريق.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات