تفكير المستقبل في أفق زمن الثقافي الهويّة.. السرد والتّراث

+ -

 بأي معنى يمكننا الكلام عن المستقبل في قضايا الفكر؟ وهل يوجد مستقبل متحرر من الماضي يقبل علينا من أفق الفكر العربي مثلا؟أدعو هنا إلى تفكير المستقبل في أفق الزمن العربي، أي من حيث هو عودة للماضي المحمّل بكل حمولات التراث. فالزمن ليس خطاّ مستقيما ينساب من أفق المستقبل ويصبُّ في الماضي، بل هو حركة دائرية من العودة والتكرار وإعادة الإنتاج، ولهذا لن يكون في الزمن الثقافي أيُّ مستقبل إلا بوصفه ماضيا محمولا على جهة المستقبل.إن التراث ليس ما مضى وما يمضي كما يُفهم لأوّل وهلة، ولكنه بالضّبط ما يُقبل علينا من المستقبل، ولهذا يجدر بالفكر أن يفكّر المستقبل دوما بوصفه كشفاً عن أبعاد وجوانب تراثية وماضوية كانت مستترة ومتخفّية في مناطق معزولة من اللاشعور الثقافي لكلّ جماعة بشرية أو ثقافة.عودة النوابت التراثيةإذا نظرنا إلى الفكر العربي من هذه الزّاوية سيقودنا ذلك بأقل تكلفة وأقصر طريق إلى فهم ما نشاهده في هذه المرحلة من تاريخنا، من عودة ملحّة للكثير من العناصر والشظايا والنوابت التراثية التي لم تكن لتظهر إلى العيان لولا أنّ أحداثا تاريخية مفاجئة هزّت الثقافة العربية والإسلامية وحرّكت مياهها الراكدة. لا يمكننا فهم هذه العودة المخيفة للأصوليات والهويّات والتكوينات القَبَلية والعشائرية إذا لم نفكّر الزمن الثقافي بوصفه حركة دائرية تعيد هضم ما لا يهضم وتعيد، لأم الجراح التي جبّتها الظروف المتسرّعة.يحلل مارتن هيدغر هذه الطبيعة الدائرية للزمن باستعادة فينومينولوجية لمفهوم أصيل منسي للزمن كان قد نحته أوغسطين، لولا أن هيمنة الزمن الأرسطي المنساب في شكل خطّي على كل تاريخ الميتافيزيقا الغربية قد جبّت اجتهاد أوغسطين تحت هوامش لاهوتية. ويقوم الزّمن في الانطولوجيا مقاما مركزيا، حيث يقول “إنما في ظاهرة الزمان المستبصرة والمستوضحة حق قدرها تتجذّر الإشكالية المركزية لكل أنطولوجيا”. فبنية الزمن الدائرية هي التي تفسّر بنية “الفهم”، كون الإنسان/الدازاين مُلقى في العالم دوما على جهة المستقبل، في حالة ترقّب وانتظار وتوقّع، فيُقبل عليه العالم من جهة المستقبل لكي يحيلها إلى جهة الماضي، وهنا لكي نفهم ونعي ظواهر العالم يجب أن نكون في حالة من الانفتاح بحيث نستقبل ما يقبل، ونحيله إلى ما انقضى في فنس الآن، وليس الآن/الحاضر إلا هذه الانفتاح/الإضاءة/التزمّن.داخل هذه الإضاءة/المتزمّنة/القلِقة “تمرُّ”، كيفيات العالم وظواهره، وتعود فيقوم الزمن بعرض ما يقبل منها على ما انقضى، أي أن الماضي يكون/يتجمّع في حالة عودة دائمة، وكل ما يأتي من جهة المستقبل ينبع من هذا التجمّع كما ينبع النهر من الجبل ماءً ويعود سحباً.إن الزمن هو “قانون يجمع تغيّر المياه مع دوام النّهر”، كما يقول جيل دولوز، وهو يواصل تعميق الزّمن الهيدغري عبر مقولتي التكرار/الاختلاف. فالتكرار الخالص والمطلق مستحيل ولا يمكن أن يعود نفس الشّيء، إنما يعود مثيله وشبيهه، بل شبحه، أي أن ما يتكرّرُ في الزّمن كلّ مرة هو المختلف، يقول دولوز “إذا وجد التكرار فإنه يعبّر في وقت واحد عن الفرادة ضد العام، وعن الكلية ضدّ الخاص، وعن البارز ضد العادي، وعن الفورية ضدّ التغيّر، وعن الأبدية ضدّ الدوام، ومن كلّ الأوجه التكرار هو الخرق”.من أين يعود المُختلفُ ويتكرر إذن ولماذا؟ إن الزمن الثقافي، مثل الزمن النفسي، والانطولوجي، محكوم بهذه العودة الدّائمة للمكبوت في اللاشعور، فتسارع التاريخ وأحداثه وتقطّعاته وانحرافاته التائهة، تسبب “عسر الهضم” بعبارة نيتشه الرّشيقة، فالزمن الثقافي عادة ما يعجز عن مسايرة تسارع الأحداث، لهذا يترك الكثير من هوامشه تسقط طيّ النسيان لا تكنها لا تذهب سبهللا. إنما تتجمع وتتوارى خلف حجاب التراث وتترصّد العودة من أي تشققات أو تصدّعات تفرزها قلاقل التاريخ وارتداداته. “لا وجود إذن لأي شيء مكرَّر يمكن عزله أو تجريده من التكرار، حيث يتشكّل كذلك أيضا حيث يختبئ، لا وجود لتكرار عارٍ يمكن تجريده أو استدلاله من التخفّي نفسه. الـ (عينه) هو الخافي والمتخفّي”.العودة بطبيعتها انتقائية لأنها تتمسرحُ في الزّمن والتاريخ، والزمن/التاريخ في كل مرّة يكشف لنا جانبا/جهة/بعدا منسيّا، من الماضي يكون قد تعرّض في وقته للقمع والكبت، لهذا فإن العلاقة بين التكرار والكبت علاقة شرطية متأصّلة، “لا أكرر لأني أكبت، بل أكبت لأني أكرر وأنسى لأني أكرر”، فالكبت تجنّب على وجه التأجيل. أمّا العودة فهي شبحية وانتقامية بطبيعتها، كما عودة أشباح “هاملت” في مسرحية شكسبير التي لا تني تحرّضه وتضغط عليه لإنفاذ نذره في الاقتصاص لمقتل والده، والخلاص من وضع الموتور الذي يبدو أنه قدر أنطولوجيا يحكم الإنسان ككل.إن ما يعود هو الأفكار والمواقف والوضعيّات التي لم تأخذ كل حقّها من الاستيعاب والتمحيص والقتل المعرفي، كما يرى دولوز “أليس صحيحا أن الأموات الوحيدين الذين يعودون هم أولئك الذين دفنّاهم بسرعة فائقة وعميقا جدّا، من غير أن نقوم بالواجبات الضرورية نحوهم، وأن الندم يشهد على إفراط في الذاكرة، بقدر ما يشهد على عجز أو فشل في إنشاء الذكرى؟”.الدعوة إلى تفكير التراثليس بعيدا عن هذا المحور، يدشّن المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي الدعوة إلى تفكير التراث في هذا الأفق، تفكير التراث العربي من حيث هو تأسيس لراحة الموتى في فكر الأحياء، إشباع الموتى موتا في وعي المستقبليين من العرب. يقترح الخطيبي دروبا متعددة لتصحيح إقامة الأحياء في عودة الموتى، وتقويم راحة الموتى في لغة الأحياء وذاكرتهم (الأرض)، وذلك باستراتيجية الاستباق الفلسفي لعودتهم الاضطرارية، يقول الخطيبي “صحيح أن التراث هو، بالنسبة إلى الفكر، راحة الموتى، أرضيين وعلّيين. وتنبع هذه الراحة من الأرض، من ماضي الأرض، في قلب الذّاكرة. تؤسس هذه الدعوة في ذاتها ملجأ التراث. فالتراث (الذاكرة، الأرض، اللغة) لا يضيء الإنسان إلا بمقدار ما يستحق موته بين الموتى”. “ينطق التراث بإقامة الإلهي في قلوب البشر وعقولهم”، ولهذا يجب الإصغاء إلى ما ينطق به التراث وفتح المنابر للكلام، تماما كما يفعل المحلل النفساني في إصغائه لكلام المريض بوصفه علاجا ووسيطا للعلاج في آن.لا مناص للأحياء إذا ما أرادوا تأمين عودة سلسة لكلام الموتى واجتناب هولهم، من اجتراح طُرقٍ فنيّة وسردية ينساق فيها كلام العائدين مستقبلا. بالفنّ عامّة والفنون السردية خاصة، تستطيع أن تتيح لكلام الموتى نصوصا مستقبلية، نصغي لهم فيها، “غير أن كلام الموتى في هذه العودة شديد البأس دائما على فكرنا: فلسنا إطلاقاً متأهّبين كما ينبغي لكي نجابه هولهم”. هل يجب انتظار هذه العودة الجنائزية للموتى ومكابدة استنفادهم لإمكانات التكرار، حتى نحظى بإقامة سويّة في عصرنا؟يمتلك الفنّ هذه القدرة الخلاّقة على استباق الواقع بفتح إمكانات متعددة يمكن أن ينساق داخلها التاريخ، يمكن للفنون إذن أن تستعيد الماضي على وجه السرد الأدبي والفنية وتستبق عودته الدائمة بتشتيته التخيلي، وهو أهم أبعاد الفن، أي القدرة على “تخييل الأصول” كما يقل ديريدا، مثل هذا التخييل التفكيكي هو ما يسمّيه الخطيبي أيضا بإقلاق الميتافيزيقا، في قوله “لا نقدر أن نستحقّ موتنا من غير أن نقلق الميتافيزيقا. هذا الإقلاق هو الذي يزحزح علاقتنا بالتراث”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات