+ -

 رغم كلِّ الدّم الذي أريق في جزائر التسعينيات، ورغم أنهار الدّموع التي رسمتْ مجراها الأمَّهات الحزينات المكتوياتُ بلهيب الفقد؛ تعودُ همجية الجاهليَّاتِ القديمة على لسان المدعو حمداش رئيس ما يسمَّى “حزب الصحوة الإسلامية” (غير المعتمد) الذي قام بتكفير الصحفي والكاتب الجزائريّ كمال داود، ودعا إلى قتله أمام الملأ في بيان شنيعٍ يعتبر سابقة في السنوات الأخيرة في جزائر ما بعد التسعينيات. القضية كبيرة ومفزعة؛ تكفير ودعوة إلى القتل وتحريض عليه، والسّبب هو كتاب، بل رواية أدبية مكتوبة بالفرنسية حملتْ عنوان «Meursault contre enquête»  دعوة تكشف عن كثير من الخطورة، وتفضح النوايا الإرهابية التي تعتملُ في نفوس عديدة ويخفيها أصحابها أو يؤجِّلونها إلى أنْ تسمح الظروف بإعلانها. ولذا سيكونُ السكوت عن هذه الجريمة، سكوت السلطات تحديدا، إعطاء فرصة لخناجر كثيرة حتى تفتك بكتَّاب ومبدعين لا يملكون إلا الكلمة سلاحا (إنْ صحّ اعتبارها هكذا في زمن السيف الدَّاعشيّ!)، وبذا تكونُ الضحية الأولى هي الحريَّة، والخاسر الأكبر هو الإنسان الجزائري الذي لم تبرأ ذكرياته بعد من الجراح، ولم تهجرْ أعماقَه بعد الرؤوسُ المقطوعة.ماذا فعل كمال داود تحديدا؟ لقد كتب رواية، أي عملا مهما انطلق من الواقع ومن حياة النَّاس يبقى متخيَّلا. لقد كتب الرواية باعتبارها إنتاج حياة وخلق شخصيات ذات مرجعياتٍ مختلفة (شخصية صالحة وأخرى فاسدة مثلا، وثالثة قلقة..)، لكنَّ ما لا يفهمه حمداش وكثير من دارسي الأدب الذين ينظرون إلى الإبداع نظرة أخلاقية وهم أشدّ خطرا من التكفيريين، هو الخيال نفسه. لأنَّ حمداش يصدُر عن ثقافة تراثية ظلَّ الخيالُ في منطقها كذبًا ونقيضا للحقيقة، من هنا جاءتْ المقولةُ المعروفة “أعذب الشِّعر أكذبه”. ومن هذا المنطلق تمَّ تكفير كثير من الأقلام، لأنَّ هذا العقل المتخلّف وغير المدرك لطبيعة الأدب، ظلَّ يحاكم الكاتب بما تقوله شخصية من الشخصيات، وللأسف بعض الدارسين أيضا يسيرون هذا المسار دون أنْ يفهموا مقول الشخصية في اندراجه ضمن بنية النص أو العمل الأدبيِّ.لماذا التكفير؟ لماذا إصرار المؤسسة الدينية (ولا نقصد هنا الدين) على تعريض حياة كاتب للخطر في كلِّ مرة باسم الدِّين؟ هناك عدّة أسباب بعضها متعلّق بطبيعة التفكير الذي يحرّك تلك المؤسسة أو بعض أفرادها، وبعضها متعلِّق بخلفيات أخرى نذكر بعضها فيما يلي:- انغلاقُ المؤسسة على ذاتها ورفضها المطلق للآخر وإيمانها الراسخ بأنّها من يملك الحق، ومن يملك سلطة تفسير النصوص كما تريد، سواء الدينية، أو حتى النصوص الدنيوية.- تُعتبر بعض النصوص تهديدا للسلطة التي حصَّلَتْها المؤسسة عبر التاريخ، وخير مثال على هذا مأساة نصر حامد أبو زيد مع الأزهر حين أصدر كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية”، وقد تمَّ تكفيره لا لأنَّه خرج من الدين، ولا لأنَّه تعرض لمقدس، ولكن لأنه وضع يده في فكر الشافعي على المصدر الذي تستمدُّ منه المؤسسة سلطتها على النَّاس.- كثير من رجال الدين لا يؤمنون بالمجاز ويعتبرونه كذبا، ولذا يفسرون كلَّ عبارة مجازية في الشعر أو النثر تفسيرا حرفيا، ولينظر القارئ كم شاعرا من الرُّوَّاد تمَّ تكفيره من هذا المنطلق، وسيندهش حين يكتشف أنَّهم كفَّروا الجميع.أختمُ بحكاية رواها لي صديق، إذ أخبرني أنَّ داعية شاهد في فيلم عربيّ مشهد زواج فيه ممثلون شهود وممثِّل إمام، وأنَّ الجمع قرأ الشعائر المعروفة في هذه المناسبة كاملة. فأفتى الدَّاعية أنَّ الممثلين قد استكملوا الشعائر، ولذا فالممثِّلة صارت متزوّجة ويحق لزميلها الممثِّل أنْ يدخل بها. هذه ثقافة لا تؤمن بالتمثيل ولا بالمجاز ولا بالخيال، ويكفي شاهدا على هذا أنَّ العرب ترجموا كل شيء تقريبا عن اليونان، لكنهم لم يترجموا المسرح.أيها القارئ.. يزداد هذا الدَّغل العربيُّ ظلمة وظلما يوما بعد يوم، لكنْ لابدَّ من ضوء، لابدَّ من رفض لهذه النفوس المجرمة. وأنا لا أملك غير هذه الكلمات لأتضامن مع حق كمال داود في الحياة، وأدافع، رغم ما يقول من أفكار قد نوافقها وقد نختلف معها، عن حقه في الكتابة والتعبير عن رأيه.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات