38serv
نزلت “الخبر” ضيفا على مائدة إفطار فنان الطابع الأندلسي والشعبي العاصمي والقبائلي محبوب الجالية الجزائرية والمغاربية بباريس جعفر قونان،المشهور في المهجر بديوان غنائي من تلحينه الخاص في طابع الانصراف الأندلسي الممزوج بين الشعبي العاصمي والقبائلي. من أشهر أغانيه التي هزت أبناء الغربة وفي الجزائر تلك التي جاءت تكريما لروح والدته الراحلة تحت عنوان “تاجميلت إيما عزيزن”، والتي أهداها إلى كل أمهات الأرض عرفانا بجميل “المويمة”، حيث كتبت كلماتها بكل عفوية على كيس ورقي تمحوها دموع فراق الحبيب تارة ثم يخدشها القلم تارة أخرى على متن الطائرة التي أقلته من العاصمة إلى باريس سنة 2003 تاريخ رحيل أمه العزيزة.شوق الاستماع إلى الأذاندقت عقارب ساعة التوقيت الذي كان ينتظرنا فيه الفنان نصف ساعة قبيل الإفطار، حيث قرعنا الجرس وفتح جعفر قونان الباب مسقبلا “الخبر” بابتسامة عريضة وعبارات ترحيبية، وقادنا بها إلى قاعة الضيوف حيث وجدنا مذياعا مضبوطا على موجات إذاعة “الشرق” للاستماع للأذان وهو النداء والصوت الذي تشتاق إلى سماعه كل الجالية المسلمة بفرنسا خلال شهر رمضان. سألنا جعفر قونان كيف قضى يومه في رمضان خارج البيت، فأجاب بأنه كان يوما متعبا نوعا ما بين أوقات العمل لتدريس الرياضيات والفيزياء وعلوم المهندس وبين وسائل المواصلات. “لكن شهر رمضان بالنسبة لأبناء الغربة علاوة على الرحمة والغفران فهو شهر السكينة والاطمئنان لكل الجزائريين والأمة المسلمة بفرنسا، فهو يذكرنا بأصولنا، والرجوع إلى الأصل فضيلة”، يقول جعفر قونان، “ناهيك عن الغاية النبيلة لتجديد العهد مع الخالق واستحضار شعائر المولى وحب الوطن وأرض الأجداد”. غير أن الأمر المتعب أكثر، يضيف، هو أن المسلم في فرنسا يعتبر مسلما صائما داخل بيته فقط ولا يمكنه إيجاد نكهة رمضان في الخارج، وهي ضريبة الغربة المرة، “فحياة المهاجر تجوال بين اليأس والطمع والحزن والفرح والحسرة والرجاء تارة، فترينه فخورا بنجاح ظاهر مما أنجزه كما يبدو له، وفرحا بما كسبت يداه وتارة أخرى ترينه تعيسا أيتمته الهجرة، تموج به رياح الشك والنكد والصمت العميق”. سكت جعفر قونان قليلا ثم تنهد تنهيدة طويلة قائلا “هذي هي الغربة واش تحبي”.التين الجاف وشوربة فريك وشطيطحة دجاج.. معشوقات الفنان في رمضانأشارت عقارب الساعة إلى العاشرة بالضبط حان موعد الإفطار بباريس، فتوجهنا إلى سفرة المائدة حيث تنوعت الأطباق من تمر وتين جاف ولبن وكذا شوربة فريك وشطيطحة بالدجاج، طبق الفنان المفضل، ومختلف المقبلات والسلاطة. بعد دعاء الصيام أخذ الفنان ثلاث تمرات وثلاث حبات من التين الجاف، وعرض علينا الفاكهة نفسها، ولدى تناولنا الشوربة قال جعفر قونان “تذكرت أيام زمان واللمة على مائدة رمضان وسط حرارة العائلة آه.. ما أحلاها تلك الأيام لو تعود بنكهتها الخاصة”، هنا تغيرت ملامح وجه الفنان وكأنما قلبنا الأوجاع بين رحيل الوالدة والقعدة الجميلة، ثم دعانا إلى الأكل مرة أخرى وألح علينا كي نتذوق من هذا الطبق ومن ذاك.“الفن الشعبي شاركني سنين الهجرة وأسمعني حلو الكلام”قبل الإفطار كنا قد استمعنا لآيات بيّنات من القرآن الكريم على القناة التلفزيونية العمومية قبل موعد الأذان، تلتها الوصلات الغنائية الشعبية والتي انسجم معها الفنان قائلا “علاوة على كل ما يربطني بالجزائر تجد الفن الشعبي القبائلي خاصة والأندلسي والعاصمي عامة هو ما يزيد في شد الوصال بيني وبين الوطن الحبيب، ويمتن علاقتي بأرض أجداد الأبرار ومن يعمرها. فالطابع الشعبي بالنسبة لي حبل برهن على متانته، فالفن الشعبي حبيب لا يخون حبيبه ولا يفرط فيه. صاحبني منذ الصغر وعلمني أن أسره بما يسر القلب ويريحه، وما يحزن الروح وما يؤلمها. شاركته أوقاتا من حياتي وسنين الهجرة. إنه شقيقي في السراء والضراء”، يقول جعفر قونان، فاللون الشعبي أسمعني حلو الكلام وعذب الألحان “باسم اللّه عالم الخفية واسم أحمد خاطري مونس” و«بك أنا حولي وقوتي يا رافع السماء بلا ركايز” وأيضا “لا تنظر يا كريم لقبائح فعلي وأنظر لضعفي من ضيق الحالة” وكذلك “ما تنفعك طاعتي ولا يضرك جهلي وأنت الغفار لا تحافي بضلالة”.. أصدقوني القول أليس هذا الكلام تهذيبا للنفوس؟ صدقتم، يقول.“مستعد لدفع اشتراك لمشاهدة برامج قناة كاي بي سي”وبينما نحن لا نزال على مائدة الإفطار، حاولنا معرفة أهم القنوات الجزائرية التي يشاهدها الفنان طيلة رمضان وأبرز البرامج التلفزيونية التي تخطف أنظاره رفقة عائلته الكريمة، التي احترمت “الخبر” رغبة الفنان في التحفظ على حياته الخاصة، فأجاب “أعتقد بأنني مثل كل الجزائريين أحب متابعة كاميرا مخفية فقط بعد الإفطار”. وماذا عن قناة كاي بي سي هل تلتقط برامجها؟ فيجيب: “إنها المرة الأولى التي أعلم فيها بوجود هذه القناة، ولكن كيف يتم الحصول عليها؛ فأنا مستعد لدفع اشتراك لإدخالها ضمن باقة القنوات التلفزيونية التي بحوزتي حاليا ولدي فضول كبير الآن لاكتشافها”. ذكريات الثمانينيات حول سينية القطايف وقلب اللوزتركنا مائدة الإفطار وانتقلنا إلى الصالون، حيث أخذ جعفر قونان “بريك” استحضر من خلاله الشعائر الإلهية لتغذية الروح بنفحات إيمانية، خاصة في هذه الأيام المباركة، ثم عاد الفنان وبدأت السهرة حول سينية القطايف وقلب اللوز والزلابية وكل أنواع الحلويات الرمضانية.. حمل الكمنجة وأسمعنا وصلة غنائية قصيرة جعلت صور المراهقة في الثمانينيات بالمدينة العليا القديمة بتيزي وزو تتوالى أمام عينيه “إنها ذكريات لا تنسى، آه على أيام زمان..”. هلا حدثتنا عنها قليلا؟ سألناه. بالتأكيد يقول عاشق الفن الشعبي “كان عمري ما بين 15 و17 سنة، كنت تلميذا في المدرسة الأندلسية وعضوا في الفرقة الموسيقية، وكنت محظوظ جدا، إذ كان معلمي يخصص لي نصف ساعة بعد الدرس لكي أغني لمعرفته بموهبتي الخارقة في حفظ الأغاني الشعبية والقصائد الشعرية، مع أنني كنت علميا وتخصصت في الرياضيات في الثانوية، لكنني كنت أحب الشعر الأندلسي والأدب. بدأت أولا بحفظ النوبة توشية وهي موسيقى المبدأ خالية من الكلمات ثم الانقلاب والدرج ثم الانصراف فالخلاص، ما سمح لي بالتعرف على الحضارة الأندلسية”.“ذكريات مهرجان تلمسان الغرناطي في رمضان وقسنطينة لا تفارقني”شرب الشاي وتناول ملعقة قلب اللوز ثم قال “إيه تقول نتاع دزاير.. ذوقي وأعطيني رايك”. تذوقنا قلب اللوز، وتشوقنا لاستماع المزيد وواصل الحديث “اسمحوا لي ولكن بكل تواضع كنت متميزا بذاكرة قوية، إذ كلما كنت أسمع أغنية شعبية للعمالقة الكبار كعبد الكريم دالي أو العنقى وڤروابي، رحمة اللّه عليهم، كنت أحفظها عن ظهر قلب وأرددها في كل مقام. وكنا نحن فرقة المدرسة الأندلسية بدار الثقافة بتيزي وزو ننشط مهرجانات موسيقية في رمضان بقسنطينة (المالوف) ومهرجان تلمسان الغرناطي. كنا نلتقي بعد الإفطار بحوالي 200 فرقة من مختلف أرجاء الوطن، نفطر معا ونجتمع حول مائدة إفطار مشتركة، وكأننا من مدينة واحدة. إنها ذكريات لا تنسى ولا تفارقني وأستحضرها في الغربة كلما حل الشهر الفضيل”.كذبة بيضاء على الوالد المحافظيتذكر الفنان أيضا كيف كان يلتقي بزملائه بدار الثقافة بعد الإفطار للغناء وأداء المدائح الدينية في رمضان، وبما أن والده رحمه اللّه كان محافظا، ومثل كل العائلات الجزائرية التي تخاف على أولادها ولديها نظرة سيئة عن المغني بصفة عامة، وخوفا من ترك الدراسة، كان الغناء من الطابوهات، يتحدث الفنان بحميمية “كنت مجبورا على استخدام كذبة بيضاء للذهاب شريطة أن أجيب على سؤال “وين راك رايح”، أقول أنا ذاهب إلى المدرسة التابعة إلى دار الثقافة. الأمر مقبول بحكم أنك تذكر كلمة مدرسة، وهناك نسهر إلى غاية السحور”. أما في أيام الجامعة يواصل حديثه، “فكنت أترك المركز التكنولوجي للرياضيات والفيزياء بواد عيسي وأتوجه إلى الحي الجامعي العلوم الاجتماعية والإنسانية بحسناوة، هنا أحدثكم عن سنوات 1981-1986، كانت بالنسبة لي فترة استثنائية قاسمت فيها أبناء المناطق المعزولة في الجبال القبائلية إفطارهم وأحيينا سهرات فنية شعبية بسيطة كطلاب جامعة بالرغم من أنها مرت بالربيع الأمازيغي والقيثار. سمح لي ذلك بالتعرف على كل طلاب الجامعة. حقا كان ذلك الكنز الذي تركته ورائي، فلا يزال كرم الأشخاص راسخا بذهني. حقيقة إنها أيام رمضانية لا ترجع. ما أحلاها الدنيا التي تبنى على الثقة والمحبة”، يقول جعفر قونان، حيث حيا بالمناسبة كل سكان القبائل في الجزائر الحبيبة التي غادرتها سنة 1987 من أجل مواصلة دراساتي العليا.رمضان الغربة خالٍ من كل نهكةدعانا الفنان إلى تذوق القطايف والمزيد من الشاي.. “أواه مشي قطايف البلاد” تبسم الفنان، وقال “رمضان الغربة خال من كل نكهة داخل المنزل نحس بجو رمضاني على حساب تنظيم الوقت”، لكن في الخارج يجتهد الجميع للتشبت بالجذور، وحكى لنا من أغرب الطرائف التي يعيشها في رمضان كمهاتفته في آخر لحظة أي قبل احتساء الشوربة لتنشيط سهرة فنية داخل مطعم معروف بباريس بعد تعذر قدوم الفنان المبرمج لتلك السهرة، وهي التضحية التي يقوم بها جعفر قونان في أغلب الأحيان في رمضان شريطة أن تكون رزنامة أجندته تسمح بذلك، “المهم إرضاء الجالية ومشاركتها البعض من حنين البلاد، وهي السهرات التي زادت من تألقي ومحبة جمهوري من أعضاء الجالية الجزائرية وحتى المغاربية”، قاطعنا الفنان بسؤالنا عن أماكن تنظيمه لتلك السهرات، فأجاب بالمعهد العربي بباريس وبعض المطاعم الكبرى وعلى بلاطوهات تلفزيونية بباريس وداخل المستشفيات لمرضى السرطان ودور العجزة حيث توجد شرائح الجالية المغاربية. وهي كلها سهرات أهديها لمنظميها بغية إدخال الفرحة إلى قلوب المغتربين، كوني أغني من باب عشقي لهذا الفن وليس لجني المال بالنظر إلى وضعيتي الاجتماعية ومنصبي وكله من فضل اللّه ونعمه علينا”، يقول جعفر قونان الذي حكى لنا إحدى طرائف رمضان مع الجوق الموسيقي الذي كان يختار منهم الذين لم يزوروا البلاد منذ عدة سنوات كي يظهروا على الشاشة “وتشوفه المويمة” تكون مرفوقة بمدائح دينية “يارب العباد الصلاة والسلام على إمام الإرسال سيدنا محمد ربحي وراس مالي” و«يا حبيبي يا محمد أنت عزي وشرفي”.الثقافة لا تصومسألنا الفنان عن المركز الثقافي الجزائري بباريس، وهنا لمسنا نوعا من الانفعال في الجواب الذي تأسف من خلاله على صيام الثقافة الجزائرية في رمضان من خلال إغلاق المركز الثقافي الجزائري بباريس، بحجة تأخر ساعة الإفطار وتعذر أعضاء الجالية الجزائرية من الحضور، “لكن وما دور إطارات الجزائر في مثل هذه الحالات، وضع جملة من الاقتراحات كتنظيم إفطار جماعي مثلا بمشاركة الجميع وترك الدعوة مفتوحة. المهم المساهمة في إثراء الثقافة الجزائرية في رمضان، لأن الثقافة لا تصوم” يقول جعفر قونان.أيقونة الشعبي عمر العشاب يسر بأدائيتذكر الفنان عمالقة الفن الشعبي وأسر لـ«الخبر” أنه لم يكن يتوقع أن يأتي يوم في الغربة بباريس بعد قرابة ثلاثين 30 سنة ويحظى بإعجاب أيقونة الطابع الشعبي وأحد عمالقته الكبار عمر العشاب، الذي أعجب بأدائه خلال حضوره سهرة فنية أحياها بمناسبة افتتاح مطعم جديد لإفطار الصائمين في رمضان بباريس. رأينا الفرحة تغمر الفنان واغتنمنا فرصة السؤال عن رزنامة الأجندة الثقافية للفنان في رمضان فأجابنا بكل عفوية “مغلوقة” بندوات فكرية ببروكسل وليل ومرسيليا للحديث عن الفن الشعبي تقابلها سهرات فنية متنوعة في أماكن عديدة.أمنية الفنانقال الفنان قونان إن أمنيته الوحيدة هي أن يجد منتجا وموزعا محترفا ذواقا للفن الشعبي وغيورا على أصالته ومعترفا بجميل الأم ليسلمه أمانة ألبوم “تاجميلت إيما عزيزن” لإعادة تجديده وتوزيعه وفقا لتقنيات العصر الحديثة في كل أنحاء الوطن وفرنسا، على أن تذهب أرباحه صدقة جارية للمحتاجين في كل مكان، “يكفيني ربحا أن يترحم هؤلاء على روح من أنجبتني؛ أمي العزيزة رحمها اللّه”.أشرفت زيارتنا على نهايتها وكانت سهرتنا شيقة بين حلو الذكريات ومرارة الغربة تركنا حرية الاختيار للفنان كي يطرب “الخبر” بوصلة غنائية “يا حمام عنالي وأعمل جميل في بلغ سلامي يالورشان إلى الجزائر” و«ربي بالمصطفى اسألتك- والأنبياء وكل مرسل وأهل التقوى ومن يحبك- وتحبو إلى النعيم يدخل واللي طافوا مقام بيتك- شايب وشباب، كهل وطفل اغفر لي لأني عصيتك- خايف ما عرفت واش نعمل”، و«نرجو بو فاطمة الزكية محمد عز كل مجلس- يشفع يوم الوقوف، في يوم اللي فيها كل عزيز يرخص- وباسم اللّه عالم الخفية واسم أحمد خاطري مونس”. وقبل مغادرتنا منزل الفنان أهدانا جعفر قونان لوحة تحمل معانيها أصالة التراث القبائلي الجزائري فشكرا للفنان على الاستضافة. من هو جعفر قونان؟ جعفر قونان من مواليد سنة 1962 بتيزي وزو، جامعي يعمل في مجال البحوث العلمية، كما يعتبر مرجعا لأضخم مشروع لرقمنة كل المؤسسات التربوية الفرنسية من الابتدائي إلى غاية التعليم العالي بباريس. يدرس الرياضيات وعلوم الفيزياء وعلوم المهندس، وعلاوة على تخصصه العلمي يهتم الفنان بالقيام ببحوث تتعلق بالثقافة الجزائرية، حيث ألّف كتابا حول الشيخ الحسناوي والفن الشعبي القبائلي، وهو مؤطر لندوات فكرية في الميدان الفني والعلمي بفرنسا وكل أوروبا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات