+ -

 عندما سقط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي إلى دويلات، كتب التاريخ انتصار الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سوّقت أفكارها السياسية والاقتصادية، باعتبارها نهاية التاريخ، كما كتب المفكر الأمريكي فرانسيس فوكاياما، ومحصلة ذلك أنه من أراد أن يرتقي في سلم التقدم والتطور، فما عليه إلا أن يحتذي حذو أمريكا، ومن تأخر، فعليه أن يمتطي القطار سريعا قبل فوات الأوان، إلا أن هذه السكرة ونشوة الانتصار لم تستمر كثيراً، ليخرج مفكر آخر اسمه “صموئيل هنتنغتون” إلى العلن، ويعلن إنه إذا ما انتهى الصراع الإيديولوجي باختفاء الشيوعية من الوجود، فإننا مقبلون على نوع آخر من الصراع، الصراع هذه المرة يكون للدين والثقافة حضور قوي، وكعادة العقل الاستعماري، قسمَ العالم إلى محاور متنافسة، حيث جعل العالم الغربي من جهة، وفي الجهة المقابلة جعل عالم الإسلام والحضارة الكونفوشيوسية والأرثوذوكسية... وغيرها.كان الغرض من هذا التقسيم هو التأسيس لعالم الصراع، بعدما سُوّق إعلامياً وسياسياً بأنه بمجرد سقوط الاتحاد السوفياتي، تنتفي مسببات الصراع وتنعدم أسباب الحروب، لذلك تسرّع فوكاياما بإعلان أطروحته التي تعتمد على السلام، كطريق لبناء العالم الديمقراطي، وذلك بالإصلاح السياسي والاقتصادي، لأن الديمقراطيات، حسبه، لا تتحارب. عالم الصراع الذي أسسه هنتنغتون هو عالم لا يعترف بتعدد الآراء والثقافات، بل هو عالم أحادي، إما أن تكون معي أو أنت ضدي.إن التأسيس لعالم الصراع دليل على فشل أمريكا في قيادة العالم، وعجزها عن مواجهة أزماته التي يتخبط فيها، ناهيك عن إيجاد حلول لها، ولأن حلم الإمبراطورية، مازال يدغدغ العقل الأمريكي، فأمريكا مخيّرة إذاً بين الهيمنة أو البقاء، كما قال نعوم تشومسكي، وبما أن أمريكا اختارت الأول، فإن طريق الهيمنة يتطلب التخلص من أي عدو مستقبلي قد ينافسها في القيادة، لذلك لا بد من افتعال الأزمات وصناعة المشكلات للتخلص من الأعداء الصغار وتلهية العدو الكبير.لذلك أصبح العدو بعد نهاية الحرب الباردة مختصراً في الجماعات والتنظيمات الصغيرة، حيث يسوّق بأنه الخطر الداهم الذي يهدد الأحرار في العالم في حياتهم وفي طريقة عيشهم، لذلك يجب مواجهته بكل الطرق ومجابهته بكل الوسائل، فمن جماعة الطالبان في أفغانستان، إلى تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن، مرورا بقاعدة بلاد الرافدين وبلاد المغرب العربي، وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أو داعش، كما يطلق عليه إعلاميا، مازال الغرب يحارب، والعرب يدعمون، والأوطان تدمر وجغرافيتها تتفكك.والسؤال الذي يطرح بعيداً عن السياق الغربي المرسوم لنا: هل هذه التنظيمات تشكل خطراً حقيقياً على العالم الغربي، أو أن الأمر لا يعدو أن يكون خطة غربية من أجل بسط نفوذه على المنطقة العربية، بما تمثله من موقع استراتيجي مهم وثروات طبيعية زاخرة؟والسؤال الآخر الذي يثور في كل مرة: لماذا تتصف هذه الجماعات والتنظيمات بكونها إسلامية فقط، دون غيرها من التنظيمات الأخرى التي تمارس العنف في حق الأبرياء، تحت مسوغ الدفاع عن النفس، كالمستوطنين اليهود مثلا؟ وهل التطرف لصيق بالدين الإسلامي والمسلمين فقط.أما السؤال الثالث، الذي يطرح بإلحاح بعد ثورات الربيع العربي فهو: لماذا هذا التحالف المسكوت عنه بين الغرب وإيران وحلفائها في المنطقة في الحرب على الإرهاب، مما يعطي الانطباع أن الحرب المعلنة، المستهدف الوحيد فيها هو المسلم السني دون سواه، فهو للأسف المتطرف والمتهم والقاتل والمقتول والجلاد والضحية؟لا أملك الإجابة الدقيقة، لكني على يقين بأن العالم الإسلامي مستهدف منذ زوال الاتحاد السوفيتي، وفشل أفكاره الإيديولوجية، وهذه النتيجة يصل إليها كل من يتابع كتابات الغربيين من ساسة ومفكرين وصحافيين، ولعل ما أشرتُ إليه في بداية المقال خير دليل، فقد اعتبر هنتنغتون الإسلام خطراً على الغرب، بما يحمله من قيم لا تستطيع المنظومة القيمية الغربية أن تستوعبها أو تحتويها، مما يجعل حالة الصدام أكيدة، فالصدام هو ما يبحث عنه العقل السياسي الأمريكي، لأنه لا يؤمن بوجود الآخر، الواعي لذاته والمهموم بقضيته، والصانع لأمجاده الراهنة والمستقبلية، أما الآخر التابع فهو الذي يريده، والكل يتذكر عندما عارضت فرنسا وألمانيا غزو العراق، كيف كانت ردة فعل الإدارة الأمريكية، حيث تهكمت على هذه المعارضة بأنها من أوروبا العجوز، أما أوروبا الجديدة فهي سائرة في الركب الأمريكي.إن النظام الذي تقوده أمريكا لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة دون إثارة المشكلات وافتعال الأزمات، فهو يتنفس الصراع، ويتغذى بالحروب، ولا يمكن لأمريكا أن تقود حرباً ضد الصين أو روسيا أو أوروبا، لأنها تكلفها الكثير، لذلك فهي تخلق كل مرة أعداءً جدداً يسمحون لها بممارسة هوايتها المفضلة، وهي بذلك تغذي نظامها، وتعمل على تحطيم أعدائها الكبار تدريجياً، الذين لديهم حلم منافستها في قيادة العالم، وذلك بالتحكم بأسعار النفط، هذا بالنسبة للأقوى.وفي الأخير، هل نحن بحاجة إلى نظام عالمي جديد، يعيد للبشرية اعتبارها، ويعلي من شأنها، ويحترم تنوعها واختلافها؟بالطبع، نحن بحاجة إلى ذلك، ولكن هذا الحلم للأسف مازال بعيد التحقق، لأن العقل الاستعماري  لا زال هو المسيطر، لذلك كنا ننتظر هذه اللحظة، حتى ينتقل العالم من الأحادية القطبية إلى التعددية، والعرب في عافية واستقرار، لكي يشاركوا في تأسيس النظام الجديد، وتؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار، فغيابهم عن الحضور سيكلفهم الكثير، لأن العقل الاستعماري دائما بحاجة إلى كعكة من أجل اقتسامها، ولا يجد أفضل من العرب.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات