38serv
إنّ غزوة بدر الكبرى نقلت لنا من طرف مؤرّخين موسوعيين وبلغة مصطلحية تميّزت بخليط في الطّرح، نظرًا لتعدّد ثقافة أصحاب المصادر كابن جرير الطبري والواقدي وابن هشام وابن الأثير.. إلخ. وقد حذا الباحثون حذو أصحاب هذه المصادر فكان طرحًا اتّسم بالسّرد للأحداث واصطبغ بأسلوب الحماسة والافتخار والبطولة والغناء الشّعري للانتصار في هذه الغزوة، فكانت بعيدة عن المنهج والمعالجة العلمية لهذه المعركة من حيث فن إدارتها ميدانيًا، فكانت دراسة كلاسيكية وربّما يرجع ذلك إلى عدم التّنسيق في مثل هذه الدّراسات بين المؤرّخ صاحب المادة الخبرية والعسكري صاحب الخبرة.فإلى أيّ مدى كان حضور التكتيك والإستراتيجية لهذه الغزوة؟ من خلال دراستنا لبعض المصادر المتعلّقة بالغزوة استنتجنا وجود فكر استراتيجي في الجيش الإسلامي النّبويّ، ويمكن إجمالها في النّقاط الآتية:أسلوب حرب المياه: ذلك أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم سارع إلى السّيطرة على آبار بدر والتّزوّد بهذه المادة الحيوية وأخذ الاحتياط الكافي لجيشه، ثمّ قام بردم هذه الآبار، والهدف من ذلك حرمان الخصم من هذه المادة الحيوية.العيون: وتسمّى في وقتنا الحاضر بنظام الجوسسة والمخابرات، فمن خلالها تبنى الخطّة ضدّ الخصم، وتشمل معرفة أنواع السلاح والاستعدادات وخطّة العدو، ولعلّ عبد الله بن جحش قام بهذه المهمّة في غزوة بدر، حيث راقب تحرّكات قريش بشكل دقيق جدًّا.الإعداد النّفسي: وهو رفع معنويات المحارب المسلم، حيث بيّن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قيمة الشّهادة والجنّة والجهاد والثّواب، فهذه العناصر أعطت تنافسًا وتسابقًا نحو هذا الهدف.نظام الصّف: وهو أسلوب مبتكر يعني ترتيب المقاتلين في صفوف مستوية متعاقبة، استعمله الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في غزوة بدر فكانت مهمّته صدّ هجمات الفرسان.الخدمات الطبّية: تشمل الإسعاف والتمريض وإخلاء الجرحى عن ميدان المعركة، ولعلّ السيّدة عائشة وأمّ سليم زوج أبا طلحة وأمّ أنس بن مالك رضي الله عنهنّ كانت عناصر طبّية بامتياز في هذه الغزوة.التّوزيع التّكتيكي والتّخصصي للفرق المقاتلة: ذلك أنّه جعل في المقدمة النشابون وهم رماة السّهام ويَعملون على إعاقة تقدّم الخصم وإحداث التشتّت في صفوفه، ثمّ تليهم فئة الرماحة أو مستعملو الرّماح التي تستعمل عند الاقتراب، منها الطّويلة والقصيرة وتستعمل للإطاحة بالفرسان، ثمّ تليهم فئة السيافة، ويبدأ دورهم عند الالتحام وهو سلاح محوري يتوقّف على مدى براعة التّدريب وخفّة الحركة.أنتليجنسيا قيادية نوعية متمرّسة: هندسة للحرب مثل عليّ بن أبي طالب الّذي نظّر في فنون الحرب ومصعب بن عمير وسعد بن معاذ والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.قوّة التحمّل النّفسي: مقابل تسرّع وانهيار الخصم الّذي تحمّل نسبة 25% من مسار المعركة فانهار بمجرّد سقوط قياداته النّوعية، فكان اندفاعًا ارتجاليًا دفعة واحدة مقابل صمود دفاعي إسلامي.الاستثمار المعرفي في الأسرى: حيث وظّف الرّسول صلّى الله عليه وسلّم سبعين أسيرًا لتكوين نخب مستقبلية، القراءة والكتابة مقابل حرية الأسرى.تكييف المناخ في الحرب: حيث جعل الشمس في ظهر جيشه وفي وجه أعدائه حتّى تؤذي بأشعتها أبصارهم.الاستثمار في الإرهاق الذي أصاب جيش قريش: فقد قاتلوا جيشًا منهك القوى انتقل من مكّة إلى بدر لمسافة 400 كلم مقابل 200 كلم من المدينة إلى بدر.هذه بعض التكتيكات والاستراتيجيات التي طبّقها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في غزوة بدر التي كانت نقطة انطلاق لتأسيس مدرسة عسكرية نبوية، ويظهر ذلك من خلال المصنّفات الكثيرة حول فن الحرب الإسلامي، كابن خلدون في مقدّمته والشّيباني في كتابه السّير الكبير ومحمد بن منكلي النّاصري في كتابه الحيل في الحروب والمرادي وابن قتيبة وآخرين، فغيّبوا عسكريًا وحضروا فقهيًا وأدبيًا.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات