38serv
لقد حذّر الله من الفتن وأسبابها. قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وقد تكلّم اللغويون في بيان معناها، فقالوا: الفتنة أصلها الامتحان، وكثر استعمالها في ذلك، ثمّ كثر حتّى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والصرف عن الشيء. حذّرنا نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من الفتن أشدّ تحذير. عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأيّ قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأيّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتّى تصير على قلبين على أبيض مثل الصّفا فلا تضرّه فتنة ما دامت السّماوات والأرض والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلاّ ما أشرب من هواه”، فقال: ”إنَّ بين يدي الساعة فِتَنًا كقطع الليل المُظلِم”. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ”أُحذِّركم سبع فتن تكونُ من بعدي تُقبِل كلُّ واحدة من جهة”.ومن تحذيره صلَّى الله عليه وسلَّم من الفتن قولُه: ”ستكونُ فتنٌ؛ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي” متفق عليه. وخرَّج نعيم بن حماد في ”الفتن” عن أبي الدرداء: ”إنَّ الفتنة إذا أقبلَتْ شَبَّهتْ - يعني: تشتبه على بعض الناس بالحق- وإذا أدبرَتْ سفرتْ، وإنَّ الفتنة تُلقَح بالنَّجوى -حديث الناس بعضهم إلى بعض سرًّا- وتُنتَج بالشكوى، فلا تُثِيروها إذا حميتْ، ولا تعرضوا لها إذا عرضتْ، إنَّ الفتنة راتعةٌ في بلاد الله، تطَأُ في خِطامها، فلا يحلُّ لأحدٍ من البريَّة أنْ يُوقِظها حتى يأذَنَ الله لها، الويلُ لِمَن أخَذ بخطامها -أي: أيقَظَها وأقامَها أو قادَها- ثم الويلُ له، ثم الويلُ له”. وفي الطبراني عن أبي الدرداء رضِي الله عنه أيضًا: ”لا تقرَبُوا الفتن إذا حميتْ، ولا تعرضوا لها إذا عرضَتْ، واضرِبُوا أهلها إذا أقبلت”.وممَّا يُنجي الله تبارك وتعالى به من الفتن الدّعاء والضّراعة إلى الله تعالى بطلب السلامة منها ومن شرِّها وشرّ أهلها؛ كما قال عليه الصّلاة والسّلام: ”يوشك أنْ تظهر فتنةٌ لا ينجي منها إلاّ الله عزَّ وجلَّ أو دعاء كدعاء الغَرقَى” رواه الحاكم عن أبي هريرة رضِي الله عنه. وعنه رضِي الله عنه عن النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ”لا يخلص من شرِّها -يعني: الفتن- إلا مَن أخلَصَ الدعاء كدعاء الغَرقَى في البحر”.وممَّا أرشدكم إليه حبيبُكم صلَّى الله عليه وسلَّم عند الفتن قولُه: ”تَرجِعون إلى الأمر الأوَّل” -يعني: ما كان عليه صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضِي الله عنهم-، وقوله عليه الصّلاة والسّلام: ”أفلَحَ مَن كفَّ يدَه”، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ”اصبروا وخالِقُوا النّاس بأخلاقهم، وخالِفُوهم في أعمالهم”، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم لِمَن قال، ”فإذا أدركتها -يعني الفتنة-: فألصق بطنك بالأرض حتّى يستريحَ برٌّ، أو يُستَراح من فاجر”. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا: ”اجلِسْ في بيتك حتى تأتيَك منيَّةٌ قاضية، أو يدٌ خاطئة”.ولقد بُلِيَت بلادُ المُسلمين في العُقود الأخيرة بوقائِع مُؤلِمة، مازالَت بلادُهم تصطلِي نارَها، وليس غريبًا أن يطرُقَ الأعداءُ كلَّ سبيلٍ دنِيءٍ لإيقاع الفتنةِ بين المُسلمين. لكنَّ العتَبَ حين ينزلِقُ المُسلمون في وحَل الفتن، ويتراشَقُون التُّهَم والتجريم، ثمّ تشتعِلُ بينهم نارٌ لا تنطفِئ، لا يستفيدون من التجارب، ولا ينظرون للعواقِب.ولا بُدَّ من التّأكيد على حُرمة دماء المُسلمين، فضلاً عن المُستأمَنين والمعصُومين، قال الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النّساء:93. وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”من قتلَ مُعاهَدًا لم يرَح رائِحةَ الجنّة” أخرجه البخاري. فكيف إذا كان القتلُ لإيقاع فتنة، أو استِهدافٌ لرِجالٍ يحفَظُ الله بهم أمنَ البلاد والعباد؟! كما يجبُ البُعد عن كلّ موقفٍ أو قولٍ يُثيرُ العداء ويُثيرُ الخلاف؛ فأمنُ البلاد لا يقبلُ المُساومةَ والمُزايَدَة. كما أن على المُخلِصين أن يضعُوا الأمورَ في نِصابها، وأن تُسمَّى الأشياءُ بأسمائِها، وتُردَّ الحوادِثُ إلى أسبابها، من غير حَيفٍ ولا تجاوُز، فبالصدقِ والإخلاصِ تصلُحُ الأمور وتُدفعُ الشُّرور.من شأن الفتن أعاذنا الله منها أن تشتبه فيها السُّبل وتلتبس فيها المسالك وتحار فيها العقول، فلا يُفرِّقَ فيها أكثر النّاس بين الهدى والضّلال والمحق والمبطل. وهذا ممّا يكشف عن خطر الفتن وشدّة حاجة المسلم إلى الاعتصام بالله عزّ وجلّ، والاستمساك بوحيه، والاستقامة على دينه وصراطه، والأخذ بأسباب السلامة من الفتن والوقاية منها. لهذا يجب على المسلمين أن يعرفوا المنهج الإسلامي عقيدة وعبادة ومعاملات وجهادًا وأخلاقًا، وأن يتمسّكوا بهذا المنهج بكلّ تفاصيله، وأن يحذروا من الوقوع في الفتن واتباع أعداء الإسلام في عقائدهم أو سياستهم أو أخلاقهم.كلية الدراسات الإسلامية
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات