38serv
ينتابك شعور وأنت تتجول بأزقتها، وسط بقايا مبان وكأنك تعود للعهد العثماني، أزقة عديدة، مداخل ومخارج مختلفة يشعر الزائر وكأنه في متاهة، إنها القصبة العتيقة، معقل قصر “الداي” أو كما يعرف “بدار السلطان” و”قصر الرياس” وقصر “خداوج العمية” و”دار عزيزة”، الإرث التاريخي المنسي، مبان وعمارات لم يبق منها إلا الأطلال. كانت ولا تزال أحياء القصبة في وسط الجزائر العاصمة، شاهدة على كل حكايا التاريخ، ورغم قدم أزقتها وتصدع بناياتها، لا تزال محافظة على تراث الجزائر وخصوصيته التي تميّزه عن باقي الدول العربية، خاصة الحرف اليدوية التي تبقى شمعة تضيء أطلال المدينة، قلّة قليلة بقيت تمارسها وبقي أصحابها يتحدّون الزمن للحفاظ على ما تبقى منها، فبالإضافة إلى كون القصبة معروفة بمحلات النحاس والنجارة التقليدية وصناعة الجلد والطرز فهي معقل البسطاء. قامت “الخبر” بجولة ميدانية قادتها إلى أعماقها، قصد الوقوف على وضعية الحرف اليدوية التي أصبح محترفوها يعدّون على أصابع اليد.القصبة.. لا صوت يعلو على صوت المطرقةكانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، فضّلنا أن تكون بداية جولتنا بالقصبة العليا، وبالضبط بشارع “حاحاد عبد الرزاق”، سألنا أحد سكان الحي عن المحلات والورشات المتخصصة في الصناعات التقليدية بالحي، فأجابنا بأن الأغلبية ترك المهنة، وهناك من ترك القصبة كلية، قادنا مرزاق إلى ورشة مجاورة لصناعة النحاس، تحفة تقليدية رائعة تشهد على عظمة وجمال القصبة العتيقة، استقبلنا صاحب الورشة بوجمعة، كانت يداه وملابسه ممتلئتان بالصدأ، وهو الذي امتهن صناعة النحاس منذ سن الرشد، قال إن بدايته مع النحاس كانت سنة 1972 مع الحرفي محمد النقاش، والحرفيين الموجودين بالقصبة في تلك الفترة منهم تونسي وهندي ويهودي، يقوم بوجمعة بصناعة الأواني النحاسية من النوع الثقيل، حضرنا معه كيفية صناعة “طاس الحمام”، من بدايته إلى نهايته، أي من المادة الأولية على شكل صفائح نحاسية ذات لون بني قاتم، إلى أن تصبح طاسا أصفرا مزخرفا، بأشكال هندسية رائعة، سألنا بوجمعة عن مصدر المادة الأولية فقال إنها غير متوفرة بكثرة، ويشتريها لدى الخواص من قسنطينة خاصة، ومن الحظائر المتخصصة في بيع النحاس القديم المستعمل، ومن منتوجات ورشة بوجمعة وجدنا المقتنيات التقليدية القديمة من “السني”، “طاس الوضوء”، “طاس الحمام”، “البقراج”،”فور مخصص للقطايف”، “لمبوط لقطايف”، “الساعة النحاسية”، “بخارات الجاوي” وغيرها، برع بوجمعة في تزيينها بمختلف الرسومات النباتية منها “نقيش الياسمين” و«قاطع مقطوع” ورسومات جزائرية تقليدية “الكاراكو”، أغلبها أشكال نباتية جد مميزة يقوم ببيعها لتجار يأتون من قسنطينة، وهران، البليدة، ومختلف بائعي التجزئة بالعاصمة، كما تقصده أعداد كبيرة من الجالية الجزائرية بالمهجر. وعن سر احتفاظه بالمهنة، قال بوجمعة “مهنة النحاس سكنت لي في دمي، وهي جزء لا يتجزأ من حياتي، هي عائلتي الثانية، ولا استطيع التخلي عنها”. أبهرتنا روعة المشاهد وسلبنا جمال موروث القصبة العتيق، فتوغّلنا بقلبها، مكتشفين خبايا تلك المباني التي تعود للحقبة العثمانية، قصدنا شارع سوق الجمعة بالقصبة السفلى، أو”زوج عيون” كما يسميها سكان الحي، وجدنا الشارع تقريبا فارغا من سكانه، سكون يغمر المكان لا يسمع إلا صوت المطرقة عند نهاية الشارع، اقتربنا من المكان وإذا به ورشة لإصلاح الأواني النحاسية القديمة، وجدنا عند مدخلها زهريات كبيرة ذات لون بني قاتم، منها ما هي مكسّرة أو تعرضت للخدش، وانتزعت منها أجزاء، طلبنا إذن بالدخول، واستقبلنا “علي” صاحب الورشة، رجل لا يتعدى سنه الأربعين، ورث المهنة منذ سنة 1988 عن والده، الذي كان يشتغل في إصلاح المقتنيات النحاسية سنوات الخمسينيات وإعادة بريقها وجمالها كما كانت عليه من قبل، وفي بعض الأحيان يحدث فيها تعديلات كبيرة تواكب فن الطرق على النحاس المعاصر، مما يجلب إليها السياح الأجانب، فيقتنون كميات كبيرة من الأواني النحاسية خاصة أواني الزينة. لا يمارس علي فقط هذا النشاط حسب ما اطلعنا عليه، فإلى جانب عملية الإصلاح يشترى أحيانا مقتنيات قديمة ويعيد إصلاحها ثم بيعها، وهي بذلك تعوله، وفي الوقت نفسه يحافظ على مهنة الأجداد، التي بدأت تندثر أمام تخلي أبناءها عنها.السيناتور الفنزويلي وعمي الهاشميواصلنا جولتنا بأزقة القصبة بحثا عما تبقى من التراث الجزائري العريق، وكانت وقفتنا هذه المرة بحي “عين المزوقة” أو “حوسين بورحلة” كما يسمى حاليا، بالقصبة الوسطى، قصدنا محل عمي الهاشمي المعروف بـ«بن ميرة”، لم نجد صعوبة في الوصول إليه كون الجميع يعرفه، ذلك الشيخ الطاعن في السن، وجدناه بمحله جالسا على بقايا كرسي قديم يأخذ قسطا من الراحة، قال عمي الهاشمي الذي كان باديا على وجهه علامات التعب، إن صناعة النحاس مهنته الأولى منذ سن 16 سنة، تفاجأنا للحالة التي كان بها المحل، رغم الأشياء الثمينة التي كان يحتويها، محل تقليدي ضيّق ليس به أدنى ضروريات ممارسة المهنة، بالرغم من ذلك برعت أنامله في صناعة أجود الأشياء التي ذاع صيتها، ليس في الجزائر فقط بل تعدّت الحدود لدرجة أن اقترح عليه عضو مجلس الشيوخ الفنزويلي الذهاب إلى فنزويلا وممارسة المهنة وتعليم أبناء فنزويلا فن النحت على النحاس، على أن تسهّل عليه السلطات الفنزويلية ظروف الإقامة والعمل هناك، وقال عمي الهاشمي إنه رفض الاقتراح لأن سنه وصحته لا يسمحان بذلك، إضافة إلى أنه ابن القصبة ولا يمكن له الخروج منها.قص علينا عمي الهاشمي حكايته مع مداعبة المطرقة والمسمار، وتجربته التي تجاوزت الـ 53 سنة في النقش على النحاس، كان يتكلم وكله حنين لتلك الأيام التي تعلم فيها الحرفة عن المغربي موسى محمد زولو، الذي كان يعيش بالقصبة، كان صاحب الجائزة الأولى لجمعية التراث لهذا العام، مولعا بالمهنة لدرجة أنه عندما يخرج من المدرسة يتسمّر عند باب محل المغربي يشاهده كيف يعمل، وكان الحرفي المغربي يطرده كل مرة، وبعد إصرار طويل وملاحظة موسى محمد زولو لاهتمام الهاشمي الكبير بالمهنة، اقترح عليه أن يعمل معه، وبذلك بدأت رحلة عمي الهاشمي مع النحاس الذي تفنن في صناعة أجود تحفه، من مصابيح و«محابس” و«سكريات” و«سني” وغيرها من المقتنيات النحاسية. تحدّث عمي الهاشمي بحسرة كبيرة ونبرة الألم في صوته عن عدم اهتمام الجيل الجديد بهذا الفن، وقال إنه تتلمذ على يده 22 رجلا وامرأتين، بينما اشتكى عمي الهاشمي من المصاعب التي تواجهها الحرفة خاصة نقص المادة الأولية مقارنة بالسنوات الماضية احتكار الخواص لتجارتها، بالإضافة إلى ظهور منافس جديد، رغم أنه لا يرتقي إلى مستوى ما يقدّمه عمي الهاشمي والمتمثل في المنتوج الصيني والهندي. ويبقى الأمل مع ذلك بالنسبة لعمي الهاشمي الذي رغم كبر سنه، إلا أن التفاؤل بالمستقبل لا يفارقه، فدراية الزبائن بجودة المنتوج المحلي يقول عمي الهاشمي وإقبالهم الكبير على المحل شجعه على مواصلة المشوار، فمحله محجة عدد كبير من الزبائن يقصدونه من كل جهات الوطن، بالإضافة إلى السياح الأجانب وممثلي السفارات الأجنبية بالجزائر الذين يتوقفون في كل مرة عند جمال ما يقدمه من تحف، بتوقيعات وجمل شكر وتقدير، في سجل يحتفظ به عمي الهاشمي ويعتبره كنزا من كنوز محله، ومن بين التوقيعات التي اطلعنا عليها بكل حماس وفرح واعتزاز توقيع ممثل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وألمانيا وفنزويلا وروسيا. لا يرى عمي الهاشمي مهنة النحاس مجرد عمل يكسب منه رزقه، بل هو جزء لا يتجزأ من حياته، ولكن أيضا مصدر فخر واعتزاز كبيرين، لأنها تعكس تراث بلادنا وكنز من الكنوز التي تركها الأجداد، خرجنا من محل عمي الهاشمي حاملين رسالته للجيل الصاعد قائلا: “يا أبنائي حافظوا على التراث وتعلموا حرفة أجدادكم”.“البابوش الجلدي” يحكي تراث القصبة العريق انتابنا تعب كبير، لكن شغف اكتشاف المزيد من التراث المتخفي داخل أزقة القصبة دفعنا إلى مواصلة جولتنا والتمتع بجمال موروث الجزائر العريق، كانت رائحة الجلد تنبعث على بعد أمتار، حيث توجد ورشة “عمي محمود” حرفي المصنوعات الجلدية، سألنا عن مكان وجودنا فأجابنا “عمي محمود” بأننا بالقصبة السفلى بالضبط بشارع “البروفيسور صويلح”، دخلنا الورشة وكان لنا حديث مطول مع عمي محمود صاحب الـ 65 سنة، عاد بنا إلى بدايته في حرفة الجلد، فقال إنها كانت سنة 1979، عندما تعلم الطبع على الجلد على أيدي المغاربة الذين عاشوا بالقصبة وهو في سن الـ21، وجدنا بورشته كميات من الجلد وقوالب مغربية مزركشة من النحاس يستعملها لتزيين المصنوعات الجلدية، إضافة إلى مصنوعات جلدية جاهزة منها “وسادات دائرية منقوشة” وحقائب نسائية من مختلف الأنواع وأحذية جلدية، ورغم ضيق المحل، يقول عمي محمود ونقص المرافق الضرورية فيه، إلا أنه استطاع تعليم المهنة لعشرات من الشباب حفاظا على موروث الأجداد، وبقاء تاريخ القصبة حيا، يشتغل عمي محمود بالمحل منذ أكثر من أربعين سنة، وجابت مصنوعاته كل القطر الجزائري، وتعد الحدود إلى مختلف أصقاع العالم، بفضل المهاجرين الجزائريين الذين يقصدون المحل لشراء تحفه الجلدية ويمثلون الزبائن المفضلين عند عمي محمود، الذي يبدو أنه في أوج العطاء وبإمكانه تقديم الأكثر للحفاظ على التراث الجزائري، وقال إنه بصدد البحث عن محل أوسع لجعله ورشة كبيرة يعلّم فيها الشباب وينتج في نفس الوقت أنواعا مختلفة من المصنوعات الجلدية الخالصة. دلّنا عمي محمود على ورشة “بوني” بنفس الشارع لصناعة الأحذية اليدوية من الجلد، وعلى بعد أمتار قليلة وجدنا مدخلا لورشة قديمة تسمح للزائر بمشاهدة عملية صناعة الحذاء من البداية إلى النهاية، ورشة تقليدية وأدوات قديمة، حتى المذياع الذي كان معلقا عند سقف الورشة، قديم يشهد على عراقة المكان. تتكون الورشة من ثلاثة أفراد يتفننون في صناعة مختلف الأحذية خاصة النسائية بطريقة رائعة، لا تستغرق صناعة حذاء إلا خمس دقائق، تحفة حرفية مميزة، سألنا أحد العمال الذي كان يقطع الجلد المصنّع إلى أشكال حسب الحذاء المراد صنعه عن كيفية تسويق الأحذية، فقال إن منتوجاتهم جد مطلوبة في السوق، لأنها ذات نوعية جيدة ويصنعونها بمواد من النوعية الجيدة، فأرضية الحذاء محلية يتم جلبها من ولاية المدية، والغراء من النوع الجيد والجلد المصنّع من الصين من النوعية الأولى، اعتبر المتحدث السلعة الصينية بمثابة المنافس الذي لا يقهر، قائلا “الأحذية الصينية قضت على مهنتنا، كما أن المواد الأولية ليست متوفرة، فقد كان يتم جلبها سنوات الثمانينيات من ولاية جيجل وقسنطينة والمدية، والآن يتم استيرادها من قبل الخواص الذين يتحكمون في أسعارها”. الصندوق سر عروس القصبةكان الرسم على الخشب أحد الحرف اليدوية التي وجدناها بالقصبة السفلى، حيث بقي صاحبها وفيا لصناعة ‘’الصندوق’’ المزركش بألوانه الباهية التي زادت من رونقه وجماله الأخاذ الذي كان يرافق “عروس الجزائر القديمة”، حيث تضع فيه جهاز عرسها من ملابس وحلي، ليقوم فيما بعد مقام الخزانة في وقتنا الحالي، وجدنا في مدخل الورشة الضيقة، شيخ طاعن في السن، فاق عمره السبعين سنة، واضعا قبعة على رأسه تشبه الطربوش، كان يزين صندوق موضوع على طاولة قديمة فيها الأسود والأحمر والأبيض والأزرق، تشبه الرسومات الموجودة على التحف والآثار العثمانية القديمة، تحاشى الحديث معنا في كيفية صناعة الصناديق الملونة، لكننا عرفنا من حديثنا معه أنه ابن القصبة العريقة، يزاول المهنة أبا عن جد منذ سنة 1956، ولا يزال وفيّا لهذه المهنة التي اندثرت وزالت مع زوال اهتمام الناس بهذا الموروث الثقافي العريق، واتجاههم نحو شراء مختلف الخزائن المتوفرة في السوق حاليا، قال وكله حسرة “يا بنتي ما بقا والو في القصبة، راحت الصنعة، زمان كان هذا الصندوق الحاجة الأولى الي تشريها العروسة وحتى وحدة ما تخرج بلا بيه، لكن الآن أصبح الطلب عليه قليل ويشتريه فقط من يريده للزينة أو إهداءه وهم قليلون جدا”. غادرنا القصبة بعد جولة مشوّقة حاملين مشاهد وصور رائعة لأزقتها ومحلاتها وورشاتها التي بقيت شاهدة على عطاء وإبداع أبنائها البسطاء الذين تحدوا كل الصعاب واحتفظوا بحرفة الأجداد وجعلوها جزء لا يتجزأ من التراث الجزائري العريق.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات