38serv
نفى عدد من المؤرخين الجزائريين الذين درسوا مرحلة صائفة 1962 المزاعم التي أطلقتها، مؤخرا، مجموعة من الأقدام السود والحركى من مدينة ”بيزيي” جنوب فرنسا، والتي روّجت لفكرة أن جبهة التحرير الوطني قامت بقتل آلاف ”الحركى والأقدام السوداء” يوم 5 جويلية 1962 بوهران، بدافع ”الحقد والانتقام”. وحسب كل من المؤرخين فؤاد سوفي، رابح لونيسي وعمار محند عمر، فإن هذه ”المجازر” لم تقع، وأنه لم يسبق لقادة الثورة أن أصدروا مثل هذه الأوامر. وتظل مثل هذه الخطوات من لدُن هذه الجماعة التي تتشكل أساسا من أقدام سوداء من مدينة وهران، محاولة يائسة تندرج ضمن التلاعب بالذاكرة، ومحاولات لاسترجاع ما يعتبرونه ممتلكاتهم في الجزائر.الباحث فؤاد سوفي”الأقدام السود يذكرون يوما واحدا ويتناسون 132 سنة من الاستعمار ” اعتبر فؤاد سوفي، الباحث في تاريخ الحركة الوطنية وحرب التحرير، بأن ”ما سُمي ”إبادة جماعية” في أحداث وهران 5 جويلية 1962 وليدة مخيلة جماعة صغيرة من الأقدام السود المنحدرين من وهران تحديدا، يحاولون إظهار بأنهم عانوا أكثر من غيرهم من الأقدام السود بالتركيز على يوم واحد من 132 سنة من الليلة الاستعمارية التي عانى منها الجزائريون”.كشف فؤاد سوفي أنه استشف من خلال حواراته مع الفرنسيين أنفسهم مدى تذمرهم من هذه ”الكمشة” من الأقدام السود الوافدين من وهران، وبأنهم ضاقوا ذرعا بمحاولاتهم مراجعة التاريخ ومحاكمة الجزائريين على استقلالهم والجنرال ديغول والتيار الديغولي ككل لتخليه عن الجزائر، حسبهم.ولم يستبعد سوفي توظيف التيار اليميني المتطرف بفرنسا ومن يحنون للجزائر الفرنسية ”نوستالجيري” القضية كمطية لتحقيق مآرب سياسوية من خلال التلاعب بالذاكرة.وأكد سوفي من وجهة نظر تاريخية وبناء على التحقيقات التاريخية التي أنجزها بداية التسعينيات، أنه لا يوجد أمر صادر من قبل قادة جيش التحرير الوطني، لارتكاب مثل هذه المجازر، وقال ”على عكس ما يروج له الأقدام السود في منتدياتهم، لم يكن هناك أمر بالقتل من طرف جيش التحرير الوطني، بل عكس ذلك تماما، فالجيش بقيادة بختي نميش ساهم في حمايتهم بوضعهم في فنادق ومواقع محروسة وحمايتهم من بطش وجنون عناصر منظمة الجيش السري الذي بقي في المدينة ولم يغادرها كما يروج له من طرف الأقدام السود لإلقاء اللوم على الجزائريين، بدليل أن أحد الفرنسيين أطلق رصاصة من نافذته ضد المتظاهرين في ساحة أول نوفمبر وهو ما أثار ردة فعل من كانوا يعبّرون عن فرحتهم بالاستقلال وكان ذلك إيذانا لانطلاق أحداث سقط فيها حتى جزائريون عزل من أطفال ونساء”.وفي هذا الإطار، أوضح سوفي ”في كل فترة انتقال من سلطة إلى سلطة أخرى من البديهي وقوع تجاوزات من طرف عناصر خارجة عن السيطرة، على غرار ما وقع على مشارف المدينة وفي الطريق المؤدي إلى المطار من طرف ما سمي جماعة عتو ”البحيرة الصغيرة ـ بيتي لاك” التي كانت خارج سيطرة مسؤولي الجبهة كسي عبد الباقي وسي عبد الحميد، حسب شهادات جل المجاهدين الذين حاورتهم خلال التحقيق الذي أجريته سنة 1992، وهي الجماعة التي أوقفها جيش التحرير وقدمها للصحافة في 12 جويلية”.الدكتور رابح لونيسي”جبهة التحرير الوطني حرصت على حماية الأوروبيين”قال الدكتور رابح لونسيي، أستاذ التاريخ بجامعة وهران، إنه لمضحك أن يتهم الجلاد ضحيته بالتعذيب، ووصف محاولات الأقدام السوداء والحركى مؤخرا بتقديم شكوى لمحكمة العدل الأوروبية كطريقة تندرج ضمن ”الهجوم كوسيلة للدفاع، وتلهيتنا عن الهدف الإستراتيجي في مجال حرب الذاكرة مع مستعمر الأمس، وهو تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر دوليا مثل كل الاستعمارات الأخرى، فلنحذر من الانشغال عن هذا الهدف الإستراتيجي والدخول في هذه التلاعبات التكتيكية منهم وإدخالنا في متاهات وتلهيتنا بقضايا هامشية وليست منطقية على الإطلاق، ونتحول إلى متهمين نسعى لتبرئة ذاتنا منها بدل ما توجه إليهم تهم جرائم واستعباد شعوب، ومنها شعبنا، وهذا التكتيك معروف في العمل السياسي، حيث نجر صاحب قضية جوهرية إلى الاهتمام بمسائل هامشية، بدل التركيز على هدفه الإستراتيجي”.ويعتقد الأستاذ لونيسي أن هذا: ”ليس معناه السكوت عن العمل الذي قام به هؤلاء الأقدام السوداء والحركى بتقديم شكوى لمحكمة العدل الأوروبية، بل بالعكس فقد أعطوا لنا فرصة لا تعوض يجب استغلالها بذكاء وتحويلها إلى صالحنا بدل ما تكون ضدنا، وذلك بتقديم ملف قوي حول جرائم الاستعمار لنفس المحكمة وإعادة إحياء مطالبنا حول تجريم الاستعمار، لكن هذا يتطلب حركية وفعالية من منظمات المجتمع المدني”.وحسب الأستاذ لونيسي، فإن هذه المحاولات ”تعود إلى تخلينا منذ مدة عن مطالبنا حول الذاكرة، فحتى ولو وقعت أحداث هنا وهناك، فهي أعمال فردية ومعزولة، ولم يتعد ضحاياها بضع عشرات، وليس معناها عمل إبادة، فالفرنسيون منذ 1962 استغلوا بعض هذه الأحداث المعزولة فضخموا أرقامها إعلاميا وبشكل مبالغ فيه، فما وقع في وهران وبعض المناطق من الأحداث الفردية ضد أوروبيين أو حركى مثلا، فقد قام بها أفراد محدودون أغلبيتهم إن لم نقل جلهم لم يشاركوا في الثورة، بل بعضهم كانوا متعاطفين مع بقاء فرنسا الاستعمارية، ثم قاموا بهذه الأعمال معتقدين أنها وسيلة لإثبات نوع من الولاء للثورة وترضية للثوار، أي عملية تبييض لأنفسهم بعد موقفهم السلبي أثناء الثورة، لكن غابت عنهم أن جبهة التحرير الوطني كانت تعمل من أجل إبقاء الأوروبيين في الجزائر، وهذا ليس فقط التزاما منها باتفاقيات إيفيان، بل كانت رغبة صادقة من قيادات الثورة لأنهم وضعوا نصب أعينهم حاجة الدولة الجزائرية الناشئة إلى هؤلاء الأوروبيين والاستفادة منهم في عملية البناء، وكي لا تنهار الإدارة والحياة العامة والاقتصادية التي كان يتحكم فيها هؤلاء الأوروبيون، وكل ذلك لتجنيب الجزائر الفوضى التي خططت لها منظمة الجيش السري الإرهابية وغلاة المعمّرين الذين كانوا وراء الضغط على الأوروبيين للرحيل، مستهدفين بذلك زرع الفوضى والانهيار التام للجزائر”.وتساءل الأستاذ لونيسي قائلا: ”فهل من المعقول أن تضرب قيادة الثورة بمصالح الجزائر بعد استرجاع الاستقلال وتقوم بأعمال كهذه تضر بمصلحتها أصلا؟ أليس من مصلحة الجزائر آنذاك بقاء هؤلاء الأوروبيين على الأقل كمرحلة انتقالية؟”. وأجاب قائلا: ”حرصت جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني على حماية الأوروبيين، فلمَ يخفي هؤلاء مثلا تدخل جيش التحرير الوطني بقيادة بختي نميش للدفاع عن الأوروبيين أمام هذه الكمشة المحدودة التي هاجمتهم في وهران في 5 جويلة 1962، في الوقت الذي بقي الجيش الفرنسي يتفرج إن لم نقل يغذي ذلك لأهداف مشبوهة؟ فقد قامت الجبهة وجيش التحرير الوطنيتان بحماية حتى الحركى من أي عملية انتقامية، وكل ذلك بهدف تفويت الفرصة على غلاة المعمرين، ومنها منظمة الجيش السري لإفشال تطبيق اتفاقيات إيفيان التي ستؤدي حتما إلى استرجاع الاستقلال بعد مرحلة انتقالية كان في لجنتها التنفيذية المؤقتة أوروبيون وجزائريون بقيادة عبد الرحمن فارس”. وأضاف: ”وإن حدثت بعض الأعمال الانتقامية المعزولة والفردية والمحدودة جدا، ولا يتجاوز ضحاياها بضع عشرات من الأفراد، فهي أمور عادية جدا بعد انتهاء أي حرب كانت، لكنه أمر مضحك وضعها في نفس المستوى مع مجازر دولة استعمارية خططت وقامت بإبادة شعب بأكمله واقتلاعه من أرضه طيلة 132 سنة، فيجب أن نركز على أن الاستعمار ذاته هو جريمة يجب إدانتها عالميا، ويبدو أنهم يبحثون أيضا بهذه الحملة عن مبررات لاسترجاع ما يعتبرونه ممتلكاتهم في الجزائر، فهل من المعقول استعمار بلادنا وسلب أراضي أجدادنا ثم يعتبرونها ممتلكات لهم؟”.المؤرخ عمار محند عمر”انتقام جبهة التحرير من الأوروبيين غير وارد” ذكر عمار محند عمر، المؤرخ والباحث في مركز البحث في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية بوهران، أن عودة الحديث عن أحداث 5 جويلية 1962 يندرج ضمن ”حرب الذاكرات التي مازالت قائمة بسبب استمرار النظرة الحنينية والكولونيالية للتاريخ”.دحض عمار محند عامر، صاحب مذكرة دكتوراه حول ”أحداث صائفة 1962”، ما يروّج له لوبي الأقدام السود بوقوع ”إبادة جماعية خلال أحداث 5 جويلية 1962 بوهران بإيعاز من مسؤولي جبهة التحرير الوطني، وقال إن هذا أمر غير وارد على الإطلاق. وأضاف: ”إن انحصار الأحداث في وهران وعدم تعميمها على باقي مناطق الوطن، بسبب استمرار مجازر منظمة الجيش السري في هذه المدينة دون سواها، ورفضها الاتفاق بين المنظمة وجبهة التحرير في الجزائر ابتداء من 17 مارس 1962، ووقوع ضحايا من الجزائريين خلال نفس الأحداث وكل هذه المعطيات تظهر عدم وجود نية انتقام من السكان ذوي الأصول الأوروبية”.ويعتقد محند عمر أن ما يفند بشدة أقاويل هذا التيار أسير ”النوستالجيري” عدم مغادرة الفرنسيين الجزائر، وحتى السواد الأعظم من الحركى مكثوا في الجزائر. ويرى محدثنا أن ”عودة الحديث في كل مرة عن هذه القضايا هو وليد كتابة تاريخية مغلوطة منذ نصف قرن ومحاولات استفزاز وابتزاز بعيدا عن الحقيقة التاريخية”. وحسب المتحدث ذاته، فإن منظمة الجيش السري التي واصلت سياسة الأرض المحروقة والمجازر، والتي أوهمت أوروبيي وهران بأن المدينة أرض محررة ومستقلة عن الجزائر، هي التي تتحمل مسؤولية ما حدث. ومن هذا المنطلق الانتحاري، كانت منظمة ”أو. آ. آس” تعتقد أن الجيش الفرنسي وكل مصالح حفظ الأمن أعداء يجب محاربتهم، بدليل العدد الكبير من العساكر الفرنسيين الذين وقعوا ضحايا رصاص المنظمة. لكن هذا لا يحجب، حسب المؤرخ، ”حالة اللااستقرار التي طبعت هذه الفترة وانعكاسات أزمة صائفة 1962 على الأحداث في وهران، التي فسحت المجال لظهور بعض الجماعات استغلت الوضع للقيام باعتداءات ضد الأوروبيين، لكن لا توجد نية مبيتة من الجزائر أو جبهة التحرير الوطني لارتكاب تلك الجرائم”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات