38serv
إنّ هذا الوطن الّذي ذاق من الاستعمار ما ذاق من محن وأَلْقَى عليه كلكله سنين طوال حتّى قيّض الله تعالى رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فضحّوا بالنّفس والنّفيس وسقطوا في ميدان الشّرف بعشرات الآلاف، كلّ ذلك لينعم الشّعب الجزائري بالحرية والاستقلال. بعد أن أذاق هؤلاء الرّجال الصّادقون الاستعمار البغيض الويلات وهزموه في كلّ الجهات في ميدان القتال وفي ميدان السّياسة، ولقّنوه دروسًا في ميدان التّضحية والفداء حتّى أجبروه أن ينصاع ويمتثل لإرادة الأحرار، فكانت مفاوضات “إيفيان” الّتي صيغت فيها الاتفاقية بدماء الشّهداء بحضور زعماء كبار صاغوها وختموها بخاتم دمائهم.وبفضل من الله تعالى كانت الحرية والانعتاق من عبودية الاستعمار، وتنفّس الشّعب الجزائري الصّعداء، وأصبح ينعم بالحرية كبقية الشّعوب، وأذكّر أنّ هناك أمانة يتحمّلها الجيل الجديد المستفيد من التّضحيات الجسام، فيجب المحافظة على هذه النّعمة نعمة الحرية والوقوف صفًا واحدًا في وجه مَن يريد لهذا الوطن كيدًا، وليوقن مَن في قلبه إيمان بهذا الوطن أنّ المحافظة على الوطن جزء من الدّين، ذلكم أنّ حبّ الوطن من الإيمان.والملاحظ في زمننا أنّنا نسينا تلك التّضحيات العظام الّتي ضحّاها الشّعب الجزائري قاطبة، وراح بعضنا يتنافسون من أجل كسب منافع، وهذا أمر مشروع إذا كان بأسلوب سياسي حكيم مع المحافظة على المبادئ الوطنية وألاّ يتجاوز التّنافس حدوده، ما يؤدّي إلى نشر الغسيل على حبال غيرنا وتعرية ظهر هذا الوطن، فيطمع فينا من كان بالأمس يستعمرنا، ولعلّ التّصريحات الأخيرة الّتي صدرت عن الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي إذ توعّد بمراجعة اتفاقية “إيفيان”، وهذا الكلام له مدلوله ومعناه، وفي نظري ناقوس خطر يدلّ على أنّ الرّجل ينظر إلينا فُرْقة وليس وحدة متماسكة.وفي هذا الجوّ الّذي انعدمت فيه الثّقة بين عناصر الوطن الواحد، تروّج الشّائعات، وتصبح الحبّة قبّة، ولا يجرؤ أحد على مواجهة الأمر بصراحة، وهنا أصِل إلى القصد من هذه الفتوى فأقول مستعينًا بالله: بوصفي فقيها يحتّم عليّ واجبي أن أصدع بالحقّ ولا أبالي ولا أخشى في الله لومة لائم: أدعو كلّ الشّعب الجزائري أفرادًا وجمعيات وأحزابًا للتوقّف عن ترويج الشّائعات والدّعايات الّتي قد تكون سببًا لإضلال النّاس، فقد تتلقّفها قلوب الطيّبين على أنّها حقائق لا تقبل الشكّ، وأنّها جاءت من مصادر موثوقة، ولئن ثبت وقوع شيء فإنّ هذه الشّائعات مضرّة بالوطن ومضعفة للصّفوف، وتصوير الأمّة على أنّها في حالة فوضى وضعف وانهيار، وكل ذلك اختلاق، ما يؤلّب العوام حين تطلق تلك الشّائعات الّتي مصدرها التعطّش إلى السّلطة والتسلّط ولو على حساب المصلحة العليا للوطن.وللشّائعات آثار ضارة لما تحدثه من بلبلة الأفكار وتضليل الرّأي العام، والفتنة بين النّاس، وتشويه سمعة البرآء، كما أشاع المشركون على الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بأنّه ساحر كذّاب، وأنّه شاعر أو كاهن أو مجنون، وكما أشاعوا في غزوة أُحد أنّه قُتِل لتخذيل أصحابه.والدّافع إلى الإشاعات هو الكراهية المتمكّنة في بعض النّفوس، أو حبّ الظّهور بالسّبق إلى معرفة ما لا يعرفه غيره، أو التّنفيس عن النّفس فيما حرمت من منصب أو مكانة، أو يكون الدّافع الحسد والتعطّش إلى الجاه والسّلطان، وتكثر الشّائعات أيّام الأزمات السّياسية والاقتصادية، حيث يكون الجو ملائمًا لرواجها، وما دام ضررها ظاهرا في تقويض المجتمع وهدم البناء وتعريض الوطن للخطر، فإنّي أصدر فتوى (تحرّم وتجرّم) المساس بالمصلحة العليا للوطن أو تعرّضه لطمع الطامعين، من كل مَن يتجرّأ على العبث بمصير هذا الوطن سواء كان في الحكم أو في الجمعيات أو في الأحزاب أو على مستوى الأفراد، ولنكون واضحين فإنّ فتواي هذه لا تحظر العمل السّياسي، فهذا ليس من شأني ولا من اختصاصي، وإنّما (تحرِّم شرعًا) الشّائعات، والسّلوكيات المضرّة بالمصالح العليا للوطن، وبالمقابل فإنّي أشجّع الاختلاف البنّاء المفيد الّذي يرفع من قيمة الوطن بين الأمم، وإنّ فتواي هذه معتمدة على نصوص ثابتة لا تقبل التّأويل، ولولا خوف الإطالة لأثبت الكثير منها، وإنّي لا أريد إلاّ الخير لهذا الوطن وأهله.وإنّي أعتبر التّراشق بالكلام في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية يعدّ تنازعًا من أجل المناصب والكراسي، وربّنا العليّ العظيم نهانا عن ذلك فقال: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال:46، واتّقوا الله في هذا الوطن وفي هذه الأمّة، فقودوها بحكمة وبرغبة في البناء والتّشييد. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى الصّراط المستقيم.*أستاذ الشريعة بجامعة الأغواط
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات