38serv
يعود مدير عام “الخبر”، كمال جوزي، في هذا الحوار للظروف التي تأسست فيها صحيفة “الخبر”، ويتوقف عند معالمها ومرجعياتها المهنية، معتبرا أن خيار المهنية يعد بمثابة سر نجاح التجربة التي تحتفل اليوم بذكراها الخامسة والعشرين.كيف جاءت فكرة إنشاء صحيفة “الخبر”؟ الفكرة أصلا جاءت عقب الإعلان عن دستور جديد سنة 1989، الذي من خلاله تم فتح المجال السياسي، فظهرت الأحزاب، وتم الانتقال من نظام أحادي إلى آخر تعددي. ولكن مخلّفات التعددية بقيت قائمة على المستوى الإعلامي، رغم قرار السلطة القاضي بمنح نوع من الحرية الجزئية سنة 1985 مع صدور صحيفتي “المساء” و«أوريزون”. لم يكن الوضع سويا إذن بعد دخول البلاد مرحلة التعددية الحزبية، إذ على المستوى الإعلامي بقيت الممارسات القديمة، وانتشار بالصحف ذات التوجه الأحادي. وداخل بالصحف كان الوضع قائما على صراع بين مختلف التوجهات الأيديولوجية التي كانت تعرفها الجزائر آنذاك، وهو صراع بين الإسلاميين، واليساريين، والتيار المسمى بالتيار الوطني المحافظ. ومع مجيء حكومة السيد مولود حمروش، انتشرت فكرة أنه لا يمكن أن يستمر الوضع على هذا الحال، وباتت مسألة التعددية الإعلامية مسألة ضرورية للتماشي مع التعددية الحزبية. وبالفعل، برزت خلال تلك الفترة ما اصطلح عليه “المغامرة الثقافية” كمشروع حامل لقيم الحرية والمهنية بخصوص الممارسة الإعلامية، فقامت الحكومة بمنح ما سمي حينها بمنحة الذهاب، وهي ثلاث سنوات أجر دفعت مسبقا للصحفيين الذين يرغبون في مغادرة مناصب عملهم في القطاع العمومي أو قطاع الدولة، للالتحاق بالصحف الحزبية التي بدأت تظهر آنذاك، أو بالصحف الخاصة التي أخذت تسمية الصحف المستقلة. وماذا كان يعني حينها مفهوم الاستقلالية؟ المعنى العام للاستقلالية آنذاك؛ كان يعني أن تكون الصحيفة مستقلة من ناحية الكتابة الصحفية، دون أن يعني ذلك تلك الاستقلالية التي لا رائحة لها ولا لون. كان يحدو جيلنا خلال تلك المرحلة هاجس الحرية والمهنية. أغلبنا التحق بالصحف العمومية أو صحف الدولة في منتصف الثمانينات، وكنا مشبعين بأفكار مستقلة عن التيارات الفكرية، وبمنأى من الصراعات الأيديولوجية لمرحلة السبعينات، كما لم يكن يعنينا الصراع اللغوي بين المعربين والمفرنسين، بحكم أننا كنا مزدوجي اللغة. وفي تلك الفترة، كان يحز في قلبنا كثيرا أن نرى الجزائريين يستقون المعلومة التي تخص بلدهم من مصادر إعلامية أجنبية، على غرار صحيفة “لوموند” الفرنسية، أو من بالصحف العربية كالشرق الأوسط وغيرها من الصحف. كان الخبر والحدث الجزائري محل تعتيم كامل، بسبب انتشار عقلية العمل وفق ممارسات الحزب الواحد، بحيث لم نكن كصحفيين نؤدي أدوارنا باحترافية. ثم جاءت تعليمة رئيس الحكومة مولود حمروش، كما أشرت سابقا، التي أعطت دفعا لميلاد الصحف الخاصة المستقلة، فخرجت الفكرة من رحم الصحفيين الشباب ثم تطورت وانتقلت من صحفي إلى آخر في صحف مثل “المساء”، أو “الشعب” أو “الوحدة”، أو “أضواء”، وغيرها من العناوين. وبخصوص “الخبر”، كان الصحفي عابد شارف هو من قاد المجموعة، فقد كان صحفيا محترفا، غطى أحداث أكتوبر 1988 كمراسل لوكالة الأنباء الفرنسية، وألّف عنها كتابا. كان هدفنا حينها هو تأسيس إعلام حقيقي، وكنا متأكدين أن الحدث في الجزائر يجب أن يكتب عنه الصحفي الجزائري وليس الصحفي الأجنبي، وأن المواطن الجزائري من حقه أن يستقي معلوماته من الصحف الجزائرية. وبالفعل، كانت هذه الفكرة بمثابة منعرج تاريخي كبير.. ومن هنا جاءت الفكرة التي أدت إلى ميلاد صحيفة “الخبر”.لما ظهر العدد الأول من “الخبر”، حمل معه افتتاحية، وكذلك الحال مع العدد الثاني، لكنه سرعان ما اختفت مع العدد الثالث، لماذا؟ استقر رأي المجموعة التي ساهمت في تأسيس “الخبر” منذ البداية على الاعتماد على الخبر، وكنا ندرك أن الجزائريين جد متعطشين للخبر المنقول من قبل صحفيين جزائريين، بعد أن كان الخبر المنشور في صحافة الدولة أو الصحافة العمومية يعتمد على الأطر الرسمية ولا يحيد عنها، فقد انتشرت أفعال شائعة آنذاك مثل “استقبل”، “دشن” وغيرها. وكانت تلك بالصحف تعتمد بدورها على الأخبار التي تنقلها وكالة الأنباء الجزائرية. ومن الطرائف التي حصلت خلال تلك المرحلة؛ أن صحيفة “المجاهد” انتظرت برقية وكالة الأنباء الجزائرية لكي تنشر خبرا عن قنبلة وضعت أمام مقرها بشارع الحرية بالجزائر العاصمة.لما صدر العدد الأول من صحيفة “الخبر”، حمل افتتاحية لم تكن تحمل أي توجه إيديولوجي وتم التركيز على المعايير المهنية والدفاع عن قيمة الحرية. وهنا أشير إلى مسألة مهمة؛ وهي أن عملية استقطاب الصحفيين وضمهم إلى المجموعة، تم وفق أسس ومعايير مهنية، وليس على أسس الانتماء الحزبي والأيديولوجي. وحتى التسمية التي حملتها الصحيفة، وهي “الخبر”، لم تكن تحمل أي دلالات سياسية أو إيديولوجية قد تضعنا في خانة اليمين أو اليسار. وبالفعل، جرى نقاش بين أعضاء المجموعة التي أرادت فعلا صحيفة مستقلة عنكل التوجهات السياسية، صحيفة ترفض التخندق ولا تعمل إلا وفق المعيار المهني، فرفضنا القيود التي تفرضها التسمية التي لها دلالات سياسية؟وما هي النقاشات التي كانت تدور بينكم آنذاك؟ أكبر نقاش كان: كيف نكون مستقلين بخبر خام لا يحتوي على التعليق، مثلما كان طاغيا في عهد الحزب الواحد؟ كنا نعتقد أنه من الضروري تفادي التعليق، إيمانا منا بأن القارئ له مستوى يمكّنه من التفريق بين مختلف الاتجاهات، وكنا نردد “أعطي القارئ المعلومة، وأتركه يكوّن رأيه بمفرده”. قلنا إننا لن نكون ضمير الأمة، بل مجرد صحفيين يقومون بنقل الخبر للقراء. من هنا جاءت تسمية الصحيفة الخالية من أي دلالات سياسية أو إيديولوجية. وحدث خلال إصدار العدد الثاني مشكلة، فغابت الافتتاحية في العدد الموالي، بعد أن اتفقت المجموعة على فكرة المهنية وترك التوجهات الأيديولوجية جانبا وإصدار الصحيفة دون افتتاحية. وكان ذلك بمثابة الحل المثالي المتفق عليه، قلنا نبقى دون افتتاحية حتى تتبلور الفكرة بيننا، من هنا جاء خيار الاستمرار في العمل المهني وفق القواعد والمبادئ المتعارف عليها عالميا.كان يبدو للوهلة الأولى أن “الخبر” ابتعدت عن الطريقة الفرنسية التي تعتمد أكثر على التعليق... بالفعل، تركنا طريقة الكتابة الفرنسية، واعتمدنا على الطريقة الأنجلوساكسونية التي تبتعد عن التعليق، وتكتفي بإعطاء الخبر. وأعتقد أن نجاح “الخبر” بعد مرور ربع قرن من الصدور، أكد صحة خياراتنا، وجعل الصحيفة منفتحة على الساحة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بكل أطيافها دون إقصاء، بحيث أن كل توجه وكل حدث له مكانته في الصفحة الأولى للصحيفة.. وهذا ما أعطانا القدرة على التخلص من العلامات والأفكار المسبقة التي ألصقت بنا، فقد قيل إننا صحيفة إسلاموية تارة، ثم قيل إننا صحيفة يسارية، وفي الأخير قالوا إننا صحيفة موالية للجنرالات. لكن تمسكنا بالمهنية أدى بشكل آلي إلى سقوط هذه العلامات والأفكار المسبقة التي رافقتنا منذ الانطلاقة، فأصبحت الصحيفة هي صحيفة القرّاء، لأنها التصقت بهم وبمشاغلهم، لأن القرّاء اكتشفوا للمرة الأولى أن الصحيفة تنقل أخبارها بكل مصداقية ولها مصادرها الموثوق بها. ومع مرور السنوات، أصبحت بمثابة مصدر لعدد من الصحف العربية والعالمية، وحتى القنوات التلفزيونية أصبحت تستقي معلوماتها بخصوص الجزائر من صحيفة “الخبر”، وبالفعل أصبح شعارنا “الصدق والمصداقية”.رافقت “الخبر” على مر السنوات عدة تغييرات على مستوى المسؤوليات، ما هي دواعي ذلك؟ أعتقد أن الهدف الأساسي من كل تغيير، بالأخص على مستوى مجلس الإدارة، أو على مستوى المسؤول الأول؛ هو طبعا تجنب تغيير الخط الافتتاحي والميكانيزمات التي تأسست عليها “الخبر”، وعدم المساس بمبادئها الكبرى وبمرجعياتها الأساسية. لقد بقيت الخيارات المرجعية والأساسية ثابتة وقائمة، رغم تغيير المسؤولين. وأنا شخصيا تجدني اليوم أعمل ضمن استمرارية الخط، ومن الجانب السياسي نسعى دائما إلى أن تُحترم الصحيفة من طرف السلطات العمومية ومن طرف المعارضة على حد سواء. وأعتقد أن الصحيفة استحقت كل هذا الاحترام نظرا لاحترامها للمهنية، فقد رفضت التخندق سواء مع السلطة أو مع المعارضة، إنها صحيفة مهنية، مرجعيتها هي المهنية. إن “الخبر” صحيفة ليست تابعة لشخص واحد، بل لمجموعة من المساهمين، وهذا هو الذي يجعل المسؤول الأول عنها لا يملك القدرة على فرض توجه معين على الصحافيين، باستثناء توجه المهنية وتحري الصدق. كما أن للصحفيين رأيا في الصحيفة، وحتى القرّاء أصبح لهم رأي، لأن الصحيفة تحوّلت بعد ربع قرن إلى معلم وطني، وهي مصدر موثوق للمعلومة بالنسبة للجزائر بخصوص الأخبار المنشورة. لهذا نحاول دائما أن نتجنب التكذيب أثناء نشر الخبر، وكل صحفيي “الخبر” من الجيل الأول تجدهم يتخوفون من التكذيب الذي قد يصلهم بعد نشر الخبر، لهذا يحرصون على العمل بمهنية ودقة.تمر اليوم الصحافة المكتوبة بوضع عسير، ما هي الإجراءات التي تم اتخذها لتجاوز هذه الوضعية؟ الوضعية التي تمر بها الصحيفة حاليا صعبة للغاية، الصحيفة أصبح لها منافسين، على غرار القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية. إضافة إلى كل هذه المنافسة، تراجع الإشهار باعتباره العمود الفقري للصحيفة. ولحسن الحظ، فإن بعد النظر لدى المسؤولين على مستوى مجالس الإدارة المتعاقبة، أدى إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي مكّنت الصحيفة من الاستمرار والدوام، رغم نقص الإشهار في الوقت الحالي، فكل ما هو إشهار متعلق بالمواد الاستهلاكية أصبح يُستقطب من قبل القنوات التليفزيونية، بينما تراجع إشهار السيارات بسبب المشاكل الكبيرة التي أصبح يعرفها القطاع. أما الإشهار العمومي، فنحن مقصون منه منذ سنة 1998. لقد قررنا رفع سعر بيع الصحيفة، ورغم ذلك تمسك القرّاء بـ«الخبر”، وكأنهم أدركوا فعلا أنه دون الزيادة في السعر، فإنه لن تكون هناك صحيفة. كما كان قرارنا القاضي بإنشاء القناة التلفزيونية “كاي بي سي الخبر”، صائبا ويتماشى مع المستقبل، إضافة إلى الموقع الإلكتروني الذي يسمح لـ “الخبر” بالانتشار على شكل واسع.هل من رسائل تودّون توجيهها بالمناسبة؟ أنتهز هذه المناسبة لأترحم أولا على أولئك الذين فقدناهم خلال هذه الفترة، الذين تركوا بصماتهم بارزة في عملية بناء المؤسسة أمثال عمر أورتيلان، وعثمان سناجقي، وعامر محي الدين، وسقية زايدي، وشوقي مدني وغيرهم. كما أحيي كل الأعضاء المؤسسين لصحيفة “الخبر” ولولا إيمانهم بالفكرة الجنينية للمشروع ذات يوم من الفاتح نوفمبر 1990، لما وجدت “الخبر” أصلا، وفي مقدمة هؤلاء أحيي الزملاء الذين تعاقبوا على إدارة “الخبر” منذ الانطلاقة، وهم عابد شارف، ومحمد سلامي، وعامر محيي الدين، وشريف رزقي وعلي جري، الذين لم يدخروا أي جهد في عملية بناء المؤسسة. التحية أيضا موصولة إلى ركائز الصحيفة ورأسمالها الحقيقي؛ إنهم الصحفيون الذين يسهرون يوميا ودون انقطاع على مدار الأسبوع في الكد من أجل تقديم مادة إعلامية متميزة للقرّاء كل صباح، ولا أستثني من هؤلاء القوة الضاربة لـ “الخبر” المتمثلة في الصحفيين المراسلين المنتشرين عبر كامل ربوع الوطن وخارجه، والساهرين على تغطية كل كبيرة وصغيرة من أحداث الجزائر العميقة. طبعا الصحيفة لا يمكنها رؤية النور دون مساهمة جنود الخفاء من إداريين وتقنيين وسائقين، وأولئك الذين لا ينامون الليل من أجل ضمان سحب الصحيفة وإيصالها إلى الأكشاك، إنهم عمال مطابع “الخبر” ومؤسساتها للتوزيع المتواجدين عبر شركات (aldp وsemprec وinempor وkdp وkdpo)، بالإضافة إلى كل عمال المؤسسات الإعلامية التابعة لـ “الخبر”، مثل يومية “الخبر الرياضي” وقناة “الخبر kbc”.لهؤلاء جميعا، أقول هنيئا لكم بلوغ مؤسستكم ربع قرن من الوجود، وعليكم أن تفتخروا بهذا الانجاز الذي تحقق بالعرق وبالدم في بعض الفترات ولم يسلم لكم هدية من أحد.وفي الأخير، لا يفوتني أن أتوجّه بخالص عرفاني لقرّاء “الخبر” الذين ساندونا في المراحل الأصعب، وساهموا بشكل كبير في إنجاح هذا المشروع وفي تحويل الحلم إلى حقيقة.. قراؤنا هم رأسمالنا ولولاهم لفشلت التجربة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات