38serv
لا تشير حالة الهدوء التي تشهدها شوارع مدينة القدس ومدن الضفة الغربية بين حين وآخر، إلى أن السكاكين قد أُغمدت، ففي أي لحظة قد يستلُ شاب فلسطيني ثائر سكينه ويسجل عملية طعن جديدة.بينما تلخص حديث الساسة الدوليين والإقليميين في الأيام الأخيرة حول ملف إدارة الأقصى، على اعتبار أنه المتسبب الوحيدة في إشعال الأوضاع في الساحة الفلسطينية، في المقابل، أخفوا المسببات الأخرى كالاعتداءات على سكان الضفة والاستيطان وانسداد الأفق السياسي، ليظهروا وكأنهم في واد، والجمهور الفلسطيني في وادٍ آخر، مما ينبئ بفشلها.الاعتداءات على الأقصى تفجّر انتفاضة السكاكينجملة مسببات دفعت الشارع الفلسطيني إلى محور الغضب، لعلّ أبرزها اعتداءات الاحتلال بحق المسجد الأقصى، بينما يقف إلى جوارها الحالة الأمنية في الضفة المحتلة، والحصار على غزة، وانسداد الأفق السياسي في كلا الاتجاهين بين المفاوضات والمقاومة بعد فترة من شد وجذب طال أمدها بنظر الفلسطينيين، وهذا ما تؤكده حالة الغليان الواضحة في المواجهات المستمرة منذ مطلع أكتوبر الماضي.وفي قراءة أعدتها “الخبر” مع المفكرين وصنّاع القرار حول مسببات الانتفاضة وديمومتها، وللواقع الإقليمي والدولي وتأثيره على مسار الانتفاضة، ورعب إسرائيل وقراراتها المتسارعة لوأدها، فضلا عن الحال التي تعيشها السلطة الفلسطينية بين سندان الضغط الدولي، ومطرقة الضغط الشعبي.ضغوط عربية لاحتواء الانتفاضة الفلسطينيةوأكد جواد الحمد، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات، أن الانتفاضة الفلسطينية شكّلت متغيرا مهما في هذه المرحلة، خاصة أن الوضع العربي لم يكن يرتقي إلى مستوى القضية.وبيّن أن الدافع الأساس وراء انطلاق الانتفاضة؛ هو الانتهاكات الإسرائيلية واعتداءاتها على القدس والاغتيالات التي تنفذها بحق المواطنين، معتبرا أن كل الوسائل التي يستخدمها الشباب الفلسطيني حتى الآن هي مدنية بامتياز ومعترف بها في كل القوانين الدولية بأنها وسائل مدنية، ولا يجوز بأن يحاكم من استخدمها محاكمات عسكرية، كما تفعل إسرائيل. وقال “بدأنا نرى ضغوطا هائلة جدا على الفلسطينيين وتدخلت دول عربية مهمة، أبرزها مصر والسعودية والأردن، لمحاولة احتواء الانتفاضة أو تهدئة الشعب الفلسطيني”.وأضاف الحمد “إن الانتفاضة بشكلها الحالي ليست قادرة على تحقيق أهدافها والتأثير في الواقع الفلسطيني إلا إذا توفرت لها شروط معينة”، مشيرا إلى أن الموقف الرسمي الدولي منحاز لإسرائيل بالكامل، رغم وجود تضامن شعبي في الدول الغربية والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، لكن يبقى التعامل العربي مع الانتفاضة الفلسطينية ضعيفا ومتواضعا جدا.انتفاضتا 1987 و2000 طعنتا مرتينمن جهته، أكد الدكتور محمود العجرمي، مساعد وزير الخارجية الفلسطيني السابق، أن الانتفاضة قامت نتيجة وصول فئات شعبية مختلفة إلى قناعة أنه لا أفق أمامها لتغيير هذا الواقع، قائلا “نحن نستعجل قطف ثمار الانتفاضة، وهي ما زالت في بدايتها”. وأوضح أنه في الانتفاضة الأولى والثانية لم يخرج الناس من اليوم الأول، وكانت تنحسر أياما، وأخرى تشتعل بأعمال المقاومة والعمليات، وهذا هو مسار الانتفاضات إلى أن تصل للسخونة التي تمكّنها من قطف الثمار وتحقيق الأهداف.وبيّن العجرمي أن الانتفاضة الحالية تسير بوتيرة ممتازة وسوف تستمر، لأنها تأتي بعد أن طُعنت انتفاضتان، لأنه في 1987 طعنت باتفاق أوسلو، وفي العام 2000 قادت إلى قتل ياسر عرفات كممثل لتاريخ البندقية والمقاومة.الطعن بالسكين يُسقط مشروع تقسيم الأقصىحالة الرعب والهوس التي استطاع الشباب الفلسطينيون الذين ولدوا بعد أوسلو، غرسها في نفوس الإسرائيليين، أربكت جبهة الاحتلال الداخلية ونجحت في إفشال مخطط التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وهو أمر لم تنجح فيه الدول العربية التي تقف موقف المتفرج. إسرائيل التي أعدّت جيشها لمواجهة الحروب وجهزت القبة الحديدية لصد الصواريخ، تفشل مجددا أمام جيل بسيط ظن قادتها أنه سينسى حقه، وباتت عاجزة أمام موجة خوف جديدة دفعت بالكثير من مواطنيها لعدم التوجه إلى أعمالهم، بل والبقاء في البيوت. الصحافي الإسرائيلي رفيف دروكر قال: “هجمة السكاكين الفلسطينية أبرزت أسوأ صفتين في نتنياهو: الجبن والكذب”، بينما أجمع عدد من المعلقين الإسرائيليين، على أن عمليات المقاومة نسفت صورة نتنياهو كـ”سيد الأمن”.25 ألف بلاغ كاذب لإسرائيليين قلقين من الطعن أو الدهسوفي سابقة، يصادق وزير الأمن الداخلي للاحتلال على تسهيل حصول المستوطنين على تراخيص لحمل السلاح، إلا أن شدة الخوف تسببت أحيانا بأن يكون المستوطن نفسه هو القتيل، غير أن الشرطة الإسرائيلية أصبحت تتلقى خلال الـ 24 ساعة 25 ألف اتصال وبلاغ كاذب من إسرائيليين قلقين من وجود شخص أو سيارة أو جسم مشبوه.وأظهرت عدة مقاطع فيديو نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي رعب المستوطنين بالوقوف خلف محطة انتظار الحافلات، خوفا من قيام فلسطيني بدهسهم.حالة جديدة من الصراع مع الاحتلال، رأى فيها المختص في الشأن السياسي والأمني د.محمود العجرمي، أنها صراع إرادات أثبت فيها الشعب الفلسطيني إرادته الصلبة في مواجهة العدو حتى باتت شوارع المدن المحتلة خالية من المستوطنين.وقال العجرمي: “إن الفلسطيني في معركته مع الاحتلال يستند إلى الإرادة وليس إلى نوع السلاح الذي يملكه لمحاربة العدو، ففي العلم العسكري يقولون إن الذي يكسب المعركة هو الذي يكسبها على المستوى المعنوي”، وهو ما يؤكده المختص في الشأن الإسرائيلي د.عدنان أبو عامر الذي بيّن أن ما يحدث مرحلة جديدة في الصراع، فشلت في توقعها كل أجهزة أمن الاحتلال.وأوضح أبو عامر أن حجم الخطر الذي يشعر به الاحتلال يضاعف ما تعرض له في الانتفاضات السابقة، على اعتبار أن الخطر في هذه الانتفاضة يأتيهم من الداخل في المحلات والأسواق والمطاعم والفنادق، ولا يقدّر أحد متى وكيف سيخرج منفذ عملية طعن، وهذا يبرز تهديدا حقيقيا في الجبهة الداخلية لإسرائيل.هل تفلت “انتفاضة القدس” من شباك المؤامرات الدولية؟هبّة كيري التي لا ترى إلا عندما تقع إسرائيل في مأزق حقيقي، وبمشاركة عربية واضحة، تنبأ بالوضع الحرج الذي وصل إليه القادة الإسرائيليون، إذ يرى المتابعون للشأن الإسرائيلي فشلا واضحا في مواجهة الهبة الجماهيرية المتنامية على عدة محاور، ما يُلزم الفلسطينيين، وفق المراقبين، إبداء المزيد من الصمود لتحقيق المطالب، بينما يحتاج ذلك كي يؤتي ثماره دعما سياسيا على المستوى المحلي والإقليمي.التخوف الفلسطيني من الحراك الأمريكي الأردني، ظهر جليا في تصريح الفصائل الفلسطينية، جاء فيه أن إعلان كيري عن اتفاق أردني إسرائيلي يتيح للمسلمين الصلاة في المسجد الأقصى ولغيرهم زيارته، يكرّس إخضاع المسجد للسيطرة الإسرائيلية. ويظهر مما سبق، أن الأطراف المشاركة في جهود تهدئة الأوضاع تسعى إلى حصر الوضع الراهن في أزمة إدارة الأقصى، فيما تتعامى بشكل علني عن المسببات الأخرى التي أوصلت الفلسطينيين لمرحلة اللاعودة إلى حين إحقاق الحق.وفي ذلك، اتجه المختص في الشأن الإسرائيلي عمر جعارة إلى وصف الجهود الدولية بأنها “الطلقة الأخيرة” لدى القيادة الإسرائيلية بعد فشل محاولات إيقاف انتفاضة الجمهور الفلسطيني في مناطق الضفة والقدس والداخل، وغزة أيضا، ما استدعى الاستعانة بالصديق الأمريكي.وأشار جعارة إلى أن الجمهور الإسرائيلي ينتظر ما ستؤول إليه مبادرة كيري، مع سيادة حالة الإحباط على الساحة، في ظل استمرار المواجهات والعمليات الفردية، التي برغم تذبذب مستواها ارتفاعا وانخفاضا، إلا أنها تشكّل مصدر قلق حقيقي لدى القيادة والجمهور الإسرائيلي، وتظهر أن الساحة لا تضبطها المبادرات الدولية، إنما الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني.السلطة تائهة بين الحراك الدولي وضغط الشارعوعكس الحراك الأمريكي الأردني لتهدئة الشارع الفلسطيني المنتفض، والتهميش الواضح للسلطة الفلسطينية، عبر التعامل مع الأردن على أنها الجهة المسؤولة عن عقد الترتيبات مع الإسرائيليين، في المقابل، تقوقعت السلطة في خانة البحث عن مكاسب شكلية في حال تمكنت من التصدي للموجة الثورية القائمة. وفي ظل استمرار التعنت الإسرائيلي، تصبح السلطة بين سندان الضغط الدولي، ومطرقة الضغط الشعبي، ولكن فيما يبدو فإنها “لن تطول بلح الشام ولا عنب اليمن”، كما يقول المثل.وفي هذا السياق، يرى عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح، أن السلطة في وضع لا تحسد عليه، فلا هي قادرة على إيقاف الانتفاضة كما تريد إسرائيل، وكذلك من المستحيل أن تجرؤ على دعمها ولا بأي شكل من الأشكال.واعتبر قاسم تهميش وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للسلطة في جهوده لتهدئة الأوضاع “ضربة مزدوجة”، إذ تريد أمريكا “قرص أذن” السلطة، ومن ناحية أخرى لتأكيد درايتها أن السلطة لا تستطيع السيطرة على الشارع الفلسطيني المنتفض.وفي التردد الواضح الذي تبديه السلطة حيال الانتفاضة، عزا قاسم ذلك إلى عدة أمور، أهمها العشوائية الظاهرة في مواقف السلطة خلال الفترة الماضية، من خلال تصعيد لغة الحديث الإعلامي، مع عدم اتجاهها للتغيير في جوهر العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي.ومن وجهة نظر أخرى، اتجه المحلل السياسي طلال عوكل إلى وصف السلطة بأنها “حجر أساس” في حال رغبة أي طرف التدخل لتهدئة الشارع الفلسطيني، نظرا لتوصيفها القانوني كممثل للشعب الفلسطيني، عدا عن سيطرتها على مناطق الاحتكاك في الضفة.ويرى عوكل أن مواقف السلطة الحالية تدفع في اتجاه استمرار الحالة الثورية القائمة بشكلها الحالي دون زيادة، بعيدا عن كل ما يتعلق بالكفاح المسلح، مستدركا أنه ينبغي أن لا توضع حدود لانتفاضة شعب له مطالب مشروعة.الانشغال الدولي والعربي قد يسمح للانتفاضة بالتّشكّل بعيدا عن العبثبعد سنوات من الشلل السياسي والدخول في متاهات المفاوضات والانقسام، انتفض الفلسطيني ليقلب الطاولة على الجميع، ويصحح بوصلة قضيته التي تشتت ما بين الفرقاء والوسطاء. الانتفاضة التي تشهدها القدس والأراضي الفلسطينية عامة، التي دخلت شهرها الثاني، تأتي في ظل وضع عربي معقد ومتشرذم تعيش فيه منطقة الشرق الأوسط بأكملها، مخاض صعب ومتعسر من المتوقع أن ينتهي بسايكس بيكو2. هناك من يرى أن الانتفاضة الفلسطينية في ظل هذا الواقع العربي، غير ملائمة وستضعها في آخر الأجندة العربية المنشغلة بملفات ملتهبة، وعلى رأسها سوريا، بعكس الانتفاضات السابقة التي كانت تحظى بزخم عربي.الوضع العربي الذي لم يكن يوما إلا معقدا، يبدو اليوم أكثر دموية، ومن المفارقة أن انشغال الدول العربية بقضاياها عنصر إيجابي، خاصة وأننا وصلنا لمرحلة التآمر على القضية الفلسطينية.الكاتب والمحلل السياسي محمد عايش، أكد أن الانتفاضة تؤكد أن الفلسطينيين لم يعودوا بانتظار التغيير في العالم العربي، وأنهم يخوضون معركتهم بأيديهم، كما أن اليأس والقنوط والمزاج السلبي السائد في العالم العربي، لا يمكن أن ينسحب على الشعب الفلسطيني الذي يقارع احتلالا عمره 67 عاما.وشدد على أن الانتفاضة الفلسطينية الجديدة تمثل تصديا لمحاولة إسرائيل الاستفادة من الوضع العربي المتردي، فالإسرائيليون يصعدون من عمليات الاستيطان والاعتداء على المسجد الأقصى، محاولين استغلال تحييد مصر وانشغالها بأزمتها الداخلية، وتورط حزب الله في سوريا، وانهيار الدولة السورية، بما فيها الجيش، الذي أصبح مفككا بسبب الأحداث الداخلية، إضافة إلى انشغال دول الخليج بالحرب في اليمن.وقال عايش “إسرائيل كانت تقرأ المشهد في المنطقة العربية على أنه الفرصة التاريخية الأهم والأكبر من أجل الانقضاض على الأرض والإنسان في فلسطين، وهو ما تبيّن بأنه غير صحيح؛ فالانتفاضة أظهرت أن الفلسطينيين قادرون على القول “لا”، وأن العرب، على تردي أوضاعهم، فإن فلسطين والأقصى تظلُ قضيتهم المركزية الأولى وقاسمهم المشترك الأكبر”.وفي نهاية المطاف، فإن الشعب الفلسطيني الذي وصل إلى هذه الحالة الثورية الفريدة من نوعها، وفق المراقبين، يبدو أنه لن يقتنع بفحوى المبادرات الدولية، كما أفشل محاولات إجهاض انتفاضته بالقوة، وإن اتجه لتلك المبادرات المستوى السياسي الرسمي المتمثل بالسلطة الفلسطينية، بينما تبقى الكلمة الأخيرة للشارع الفلسطيني، لأن انتفاضة بلا رأس يصعب احتواؤها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات