38serv
لاتزال النصوص التي كتبها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بين 1962 و1972 تشكل مرجعية أساسية بالنسبة للباحثين في تاريخ الجزائر الثقافي، رغم الفترة الزمنية الطويلة التي تفصلنا عنها. فالمواضيع التي تم تناولها في هذه المقالات التي صدرت في كتاب لأول مرة سنة 1973، بعنوان “من نزع الاستعمار إلى الثورة الثقافية”، وصدرت مؤخرا في طبعة جديدة عن منشورات “عالم الأفكار”، صالحة لقراءة واقعنا الثقافي وعلاقتنا بالآخر، بالخصوص من خلال مقاله الشهير حول ألبير كامي الذي لايزال محل نقاش وجدل كبيرين.ينظر الدكتور أحمد طالب للروائي ألبير كامي نظرة نقدية، في مقال عنوانه “ألبير كامي بنظرة جزائري”، وهو في الأصل محاضرة ألقاها بقاعة “ابن خلدون” بالجزائر العاصمة في فيفري 1967، ثم في بيروت يوم 20 أفريل 1967، فيقدمه ككاتب عرف مصيرا متفردا. ويعترف منذ البداية بأن كامي روائي كبير حقق نجاحا معتبرا، إذ حاز على جائزة نوبل للآداب وهو بعدُ في سن الرابعة والأربعين، وهو التكريم الذي لم يحظ به أستاذه أندري مالرو، حسب اعتراف كامي نفسه، وفق ما جاء في مقال الدكتور طالب الذي اعتبر أن قصة حياة صاحب رواية “الغريب” تعتبر “قصة غامضة”، فهو من مواليد الجزائر، مثلما كتب في “صيف”.. حيث قال “الجزائر هي بلدي الحقيقي”. ولم يكف عن التغني بالسماء، والبحر، وضوء بلدنا الجميل، لكنه في المقابل غادر الجزائر وهو في سن السابعة والعشرين، ولم يعد يتردد عليها إلا في فترات متقطعة، رغم أنه قال: “أوروبا رطبة وسوداء”، وسيكتب لاحقا في نص “العودة إلى تيبازة”: “لم أتنكر للضوء أين ولدت، ومع ذلك، لم أرغب في رفض عبودية هذا الزمن”.الطريق نحو التناقضاتوتحدث الدكتور طالب عن ما اعتبره “تطورا ذا معنى في مسار كامي الذي كان ينتمي للحزب الشيوعي في عهد الجبهة الشعبية التي حكمت فرنسا ابتداء من سنة 1936، فكتب العام 1944 افتتاحية جريدة منبثقة عن المقاومة: “نريد تجسيد ديمقراطية عمالية وشعبية حقيقية”، لكنه سرعان ما امتثل للعزلة ووقع في التناقض، حيث كتب إثر عودته من ستوكهولم سنة 1957 أنه: “رجل شاب تقريبا، غني فقط بشكوكه وبمؤلفاته التي هي قيد الكتابة، ومتعود على العيش في عزلة العمل، وفي الانسحاب من الصدقات”.ويؤكد الدكتور طالب أنه لا يريد تقديم محاكمة لكامي بقدر ما يسعى لفهمه وتفسير علاقته بالجزائر. واستنادا للفيلسوف الفرنسي “مونتاني”، كتب طالب أن فهم أي رجل يتطلب تتبع خطواته بدقة، وهو ما حمله للعودة إلى اللحظات المهمة في حياة صاحب “المنفى والملكوت”، منذ مولده، وطفولته التعيسة بسبب رحيل والده المبكر، وصولا إلى الدور الذي لعبه أستاذه “جان غرونيي” الذي سمح له باكتشاف رواية لأندري جيد تحكي عن طفل يتيم فقد والده. ثم حياته في العاصمة والاختلاط بالوسط المثقف والعلاقة مع ماكس – بول فوشي، وبخاله الذي يقطن في حي باب الواد الذي كان يتناقش معه بخصوص قضايا الأدب والفلسفة، لتبدأ سنوات الجامعة والانضمام للحركة المعادية للفاشية، والانخراط في الحزب الشيوعي (إلى غاية سنة 1937) وغيرها من النشاطات التي حملته للمسرح والقراءة (باسكال، كيركيجارد، مالرو، جيد، نيتشه، دوستويفسكي..). ويعتقد الدكتور طالب أن الحياة الأدبية لكامي بدأت سنة 1937، بعد أن عجز عن الاستمرار في دراسته الجامعية بسبب المرض. واعتبر أن المقالات الصحفية التي كتبها كامي في تلك المرحلة بجريدة “الجي ريبلوكان”، (منها تحقيق في القبائل) وضعته في خانة “قلة من الفرنسيين تجرأوا على قول الحقيقة وفضح الممارسات الاستعمارية على غرار أندري جيد وأندري مالرو. وكتب وهو يستحضر التراث الفكري الفرنسي المعادي للاستعمار: “وبخصوص ألبير كامي، نجده يدافع عن تصور معين للعدالة الاجتماعية، في نظام لا يعيد النظر في وضعية أوروبيي الجزائر، وسيكون متحفظا جدا سنة 1945 أمام المطالب السياسية لصالح جمهورية جزائرية، وسيكون معاديا بشكل صريح بعد سنة 1954 لما يتعلق الأمر باستقلال الجزائر”.“أعراس” من دون “العربي”ويقترح الدكتور أحمد طالب العودة لسنوات 1935- 1940 باعتبارها مكّنت كامي من اكتساب أفكار شكلت محور أعماله لاحقا لفهم تناقضاته، منذ كتابه “المنفى والملكوت” (شرع في تأليفه سنة 1935، ويضم مجموعة من القصص القصيرة) كمرجع أساسي لأفكاره اللاحقة، حسب اعترافه هو شخصيا. وهنا يكتب الدكتور طالب: “هذا الكتاب الصغير مثير لأنه يكشف ازدواج طبع كامي، والمنقسم بين عدة متناقضات”، موضحا أن كامي ورث هذا الانقسام والتناوب بين الفكرتين المتناقضتين والمتعارضتين، من والدته الإسبانية، لتشكل ميزة أساسية في مساره الأدبي والفكري.ويشير وزير الخارجية الأسبق إلى أن غياب “العربي” في مؤلفات كامي بدأ مبكرا وظهر في “أعراس” الذي يعتبر نصا يمجد المعمرين (الجنس الذي ولد من الشمس والبحر..)، لكنه يقدم وصفا مختلفا لنفسه يجعله ينأى عن هؤلاء المعمرين الذين يعتبرهم بمثابة “جنس لا يولي أهمية للروح، وغارق في عبادة الجسد والإعجاب به”.ظل كامي حبيس هذا التناقض، حسب الدكتور طالب، وقد أضاف له بعضا من أفكار مؤلفين فرنسيين من الأقدام السوداء (غبرييل أوديزيو، لويس بيرتراند، روبير راندون..) الذين دافعوا عن “أسطورة إفريقيا اللاتينية”، وعن قوة المعمر كفكرة أساسية في “أعراس”.تتبع الدكتور أحمد طالب خطوات كامي الفكرية والأدبية على ضوء هذه التناقضات التي ميزته، وقدم شروحا لمؤلفاته بدءا من رواية “الغريب” (1942) التي جاءت بعد مجموعة “المنفى والملكوت”، إلى “الطاعون” التي شرع في تأليفها وهو تحت تأثير رواية “موبي ديك” لهرمان ميلفيل، وصولا إلى كتابه الشهير “الإنسان المتمرد” الذي ألفه عقب خلافاته مع جان بول سارتر. وحسب طالب، فإن فشل “الإنسان المتمرد” والقطيعة مع سارتر حملته على قرار اختيار الصمت الذي لم ينقطع إلا سنة 1951 مع محاكمة مناضلي حركة انتصار الحريات الديمقراطية بالبليدة، ليعود إلى عالم الصحافة سنة 1955 ككاتب في “ليكسبريس”، حيث أبدى نوعا من التعاطف مع أفكار “أحباب البيان والحرية، مبديا أسفه لعدم تحقق أفكار الاندماج”. وحسب الدكتور طالب، فإن كامي أدرك الأسباب التي حملت الجزائريين على اللجوء للعمل المسلح، لكنه عجز عن إدراك أن الأمر يتعلق بثورة، فتجاوزته الأحداث، ليصل إلى تحليل مسألة غياب “العربي” في أعمال كامي برمتها، ويخلص إلى ما يلي: “كامي، خانته الشجاعة والتبصُر خلال اللحظات الحاسمة”، موضحا أن الشعب الجزائري كان بإمكانه أن يعتبره جزائريا لو سانده في نضاله ضد الاستعمار.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات