38serv
إنّ الدّين إذا خالطت بشاشته القلوب، وغمرت أنواره الأفئدة والضّمائر، ظهرت آثاره في حياة صاحبه سعيًّا في الخير وبعدًا عن الشّر، ونفعًا للغير وكفًّا للأذى. وهذه معانٍ لا يمكن للمرء أن يتظاهر بها طويلاً، فهي لا تخرج إلاّ من قلب عامر بالإيمان راغب فيما عند الله تعالى، ولهذا جعلها الله عزّ شأنه من أهم المعايير الّتي يتفاضل بها النّاس في إسلامهم وإيمانهم وتديّنهم. نعم ما أسهل المواظبة على شكليات ظاهرة، وما أيسر الالتزام... لكن التّحقّق بمعاني الدّين العميقة وتمثّلها في كلّ مناحي الحياة وفي كلّ الأزمان والأوقات أمرٌ عظيم إلاّ على مَن يسّره الله عليه!.إنّ نفع النّاس وكفّ الأذى عنهم معنى عظيم من معاني الدّين، ومرتكز أساسي في التديّن الصّحيح، ومظهر صادق من مظاهر التّديّن الصّادق، وها هو الصّادق المصدوق سيّد المتديّنين وقدوتهم وإمامهم صلّى الله عليه وسلّم يُبيِّن بأوضح بيان وأبين كلام. فعن ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما أنّ رجلًا جاء إِلى رسول اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، فقال: يا رسولَ الله مَن أَحبُّ النّاس إلى الله؟، قال: ”أنفعُهُم للنَّاس، وإنّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله سُرورٌ تدخلُهُ على مؤمنٍ: تكشفُ عنه كَربًا، أو تقضي عنه دَيْنًا، أو تطرد عنه جُوعًا، ولأنْ أمشيَ مع أخي المسلم في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكفَ شهرين في مسجدٍ، ومَن كفَّ غضبهُ سترَ اللهُ عورتَهُ، ومَن كظمَ غَيْظَهُ ولوْ شاء أن يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، ملأَ اللهُ قلبهُ رِضًى، ومَن مشى مع أخيهِ المسلم في حاجةٍ حتّى يُثْبِتَهَا له ثَبَّتَ اللهُ قدمَيْهِ يوم تزلُّ الأقدامُ، وإنّ سُوءَ الخُلُقِ لَيُفسِدُ العملَ كما يُفْسِدُ الـخلُّ العسلَ” رواه الطبراني وغيره.والحديث واضح في أنّ العبد إنّما يبلغ الذِّروة من محبّة الله الّتي تفيدها صفة التّفضيل ”أحبّ النّاس” بقدر منفعته للعباد وسعيه في ذلك. والأحاديث في هذا المعنى وفيرة وما ذكرته يكفي ويفي في هذا المقام.أمّا ما يخصّ كفّ الأذى، فقد ورد بحقّه نصوص كثيرة، منها ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: إنّ رجلاً قال: يا رسول الله أيّ المسلمين خير؟، قال: ”مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده” رواه مسلم. وفي رواية أبي مُوسَى الأشعري رضى الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ اللهِ، أَيُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: ”مَن سَلِمَ الـمسلمون مِن لسانِه ويدِهِ” رواه البخاري ومسلم. وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاص قال: سمعت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ”تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ؟”. قالوا: اللهُ ورسوله أعلمُ. قال: ”مَن سلِمَ الـمسلمونَ مِن لسانِه ويدِه”. قال: ”َتدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ؟”.قالوا: اللهُ ورسوله أعلمُ. قال: ”مَن أمِنهُ الـمؤمنون على أنفسهم وأموالهم والمهاجر من هجر السُّوء فاجتنَبَهُ” رواه أحمد. وهذه نصوص صريحة في أن المرء لن يحقق الإسلام ولن يتحقّق بالإيمان ما لم يسلم النّاس من أذاه ويأمن العباد بوائقه!ومن عظمة الإسلام ورحمته أن جعل كفّ الأذى عن الناس صدقة يتصدّق بها الإنسان على نفسه حتّى لا يكون لإنسان مهما كان معدمًا حجّة في ترك الصّدقة! كما يفيده حديث أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال: ”إيمان بالله تعالى، وجهاد فى سبيل الله”، قلت: يا رسول الله فأيّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ”أنفسُها عند أهلها وأغلاها ثمنًا”، قال: فإن لم أجد؟ قال: ”تُعين صانعًا أو تصنع لأخرق”، قال: فإن لم أستطع؟، قال: ”كُفَّ أذاك عن النّاس، فإنّها صدقة تصدّق بها عن نفسك” رواه أحمد.فهذه الأحاديث النّبويّة الكريمة وضعت للتّديّن حدّين: حدّ أعلى وحدّ أدنى، فالأعلى هو نفع النّاس والإحسان إليهم، والأدنى هو كفّ الأذى عنهم، وهذا لا يصعب ولا يعسر على أحد. فمهما وجدنا من تظهر عليه مخايل التّدين الظّاهرية ثمّ رأيناه متقاعسًا عن نفع النّاس من حوله فلا ريب أنّ في تديّنه دَخَن، كما أنّه مهما وجدنا من تظهر عليه هذه المخايل ثمّ وجدناه يؤذي النّاس ويسيء إليهم فلا شكّ أنّ في تديّنه دخن!إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات