مبدعو المتوسط يبحثون عن الإنسان وسط الخراب

38serv

+ -

دخلت، أول أمس، الأفلام الأربعة الأولى المنافسة في مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي، ويتعلق الأمر بـ ”أداما” من فرنسا، ”المطلوبون 18” من فلسطين، ”المتوسط” من إيطاليا و”قدرات غير عادية” من مصر، وتناولت مواضيع مختلفة، وجاءت من بيئات متنوعة، لكنها تقاطعت في جزئيات: الإنسان، الحرب، البحث عن السلم وفي مقدرته على جعل المستحيل ممكنا. تبحث الأعمال عميقا في خرائب النفس البشرية التي  لا تقنع بما هو متاح بين أيديها، تدفعها الرغبة الكامنة لتطويع قدراتها، والتفتق من شرنقة الموجود لتتبع المجهول. حمل الفيلم الأول في رحلة ”أداما” ومعاناته في البحث عن شقيقه ومواجهته لفصول من الحرب العالمية الأولى، وشغفه باكتشاف العالم خارج القبيلة ووجهه الآخر في رغبة الفلسطينيين التحرر، وذلك عبر رسالة الانتفاضة بتحقيق الاكتفاء الذاتي، مما شكل خطرا على منتجات إسرائيل، فظهر الصراع في السعي لمصادرة البقرات ”المطلوبون 18” على أنهم نوع إرهاب جديد يهدد أمنها، تذهب في نفس مسار ”أداما” للخروج من شرنقة المحلي الهادئ إلى العالمي الفوضوي والمضني. استمر عرض الأفلام على فترات متقطعة من يوم أول أمس، بدأت مع الصباح وتواصلت حتى عقد ندوة صحفية مع بطلة فيلم ”قدرات غير عادية” بعد أن جاوزت الساعة التاسعة مساء، مع تسجيل غياب المخرجين للأفلام الأربعة، وهو ما حال دون مناقشة المواضيع التي تناولها كل واحد منها.  ”أداما” وجه آخر لعنصرية الاستعمار الفرنسي في إفريقيا  يمثل فيلم ”أداما” الذي افتتحت به المنافسة للمخرج الفرنسي ”سيمون روبي” وهو في شكل فيلم ”كارتون”، صورة لوجه العنصرية والاستعمار الذي سلطته فرنسا على مستعمراتها في إفريقيا، ويتواصل لليوم في أشكال أخرى، يتجلى في حياة طفل في الثانية عشرة من عمره، يعيش في قرية نائية في غرب إفريقيا، يبدأ الفيلم من صورة ”أداما” داخل الماء، حيث بدا كما لو أنه يغرق، وسرعان ما أخذ في الصعود، ويفتح عينيه حتى بلغ سطح الماء، عندها كان صراخ أقرانه من شباب القرية يتعالى تعبيرا منهم عن فرحتهم، وهم يلقون بأجسادهم ”الزنجية” في مياه البركة التي تتوسط القرية، والآباء ينهرون عن فعل ذلك، ولكنهم لا يحفلون بهم.  قصة ”أداما” تصور طقوس القبيلة التي تدفع بالأبناء عند سن البلوغ إلى التعبير عن اكتمال الرجولة، بخوض تجربة البقاء بمفردهم خارج القبيلة، وأن يحصلوا على صيد ثمين، حيث يقام عرس ”إفريقي” وسط القرية، وبحضور مجلس القبيلة، يقوم خلاله شيخ بوضع علامة بمشرط على وجه كل شاب، وعندما يصل دور ”سامبا” شقيق ”أداما” الأكبر لتخلد الشامة على وجهه دخوله مرحلة الرجولة، وإذ بطائر يحوم في السماء ويصدر صوتا قويا يحول دون أن يضعوا له العلامة.يرينا المخرج الثلاثيني، والذي شارك في وضع سيناريو الفيلم إلى جانب ”جوليان ليلثي”، وهو خريج ”كلارتس” الأمريكي، بأن بحثه في الصور المتحركة أظهر إمكانيات سردية كحال فيلم ”أداما”، عبر مشاهد مختلفة، تبدأ من إبراز الطابع ”القبلي” للقرية الهادئة المطمئنة، منازل من طوب بنوافذ مفتوحة بلا زجاج أو ستائر، ضوء شموع خافت، وحياة غاية في البساطة، لكن ”سامبا” يقرر إبراز رجولته على طريقته، ليس بالمبيت في الغابة، بل بالمضي في رحلة بعيدة، رحلة يشارك من خلالها في الحرب الدائرة على ضفة عالم آخر، لم يطلع أحد على ذلك حتى والديه، فقط ”أداما” كان شاهدا على رحيله وهو يجمع متاعه، رحيل ”سامبا” كان له وقع كبير على ”أداما” ووالديه وعلى القرية ومجلسها، واتفق الجميع على البحث عنه، حيث ”سامبا” خرق قانون القبيلة، وعرض نفسه لخطر قائم لا محالة (وراء المنحدرات حيث تقع أرض الأنفاس المأهولة بالأرواح الشريرة للحرب)، وهو زمن الحرب العالمية، زمن ثورة فرنسا التي أقحمت فيها أفراد المستوطنات التي كانت تبسط عليها سلطانها، وتدفع بهم للموت جملة، للدفاع عن اسمها وشرفها، كان ”سامبا” أحد جنودها وأحد ضحاياها لم يمت حقيقة، ولكن التضحية ليست بالجسم الذي يبلى وحسب، بل بالجهد والخوف وفراق الأهل وثمن الحرية.كل ما تركه ”سامبا” لشقيقه ”أداما”، كان علبة بها بعض قطع نقدية، والتي فقدها عبر الرحلة الشاقة، بعد أن فر من القبيلة، رغم محاصرة أهله، خرج ”أداما” من رحم القبيلة للمرة الأولى، كان الرجل ”الفزاعة” الذي صادفه قبل أن يخرج ليلامس النور، ويعاين المكان خارج صخور القبيلة، أول شيء يرعبه في هذه الرحلة، وصوت الطائر المحلق في السماء لوحده كان دليلا وهاديا له. اصطدم ”أداما” في عالمه الجديد برياح تقتلع كل شيء تخرج من البحر، وفيها رأى خيالا كان يظن أنه شقيقه ”سامبا” تبعه، وإذ بصوت قوي يبدد هدوء المكان فكانت الباخرة، تحدى ”أداما” الجنود الذين حاولوا منعه من صعودها لصغر سنه، وشيخ كان يعزف على مزمار حاول منعه أيضا، يردد هذا الشيخ (الشبح)، دائما بأنه يعرف كل الطرق، ورغم ذلك صعد ”أداما” في الأخير في غفلة منهم للسفينة، وعاين وعايش عن قرب معاناة الجنود من بني جلدته، كان يرى وجه شقيقه في كل واحد، وأينما حل كان يجيب عن سؤال كل من يصادفهم ”أبحث عن أخي سامبا”.مشهد وصول ”باريس” أو ”بناما” كما يسميها أهلها، حمل الذهول للصغير ”أداما” وهو يكتشف العالم الجديد المليء بالصخب واللهو، حانات وموسيقى، وأيضا اكتشف معنى السرقة بعد أن فقد تذكار شقيقه الوحيد بما يحتويه من قطع نقدية، كما عرف معنى الدعم الذي لاقاه من أشخاص صادفهم وهو ينتقل من محطة القطار إلى مستشفى الجنود، وكاد أن يفقد الأمل ويموت وهو يحمل الذخيرة وينتقل بها وسط البرد وأرض واسعة يكسوها الثلج، وسمع صوت الطائر مجددا متبوعا بصوت طائرة عمودية دمّرت المكان كله وتسببت في عاصفة كبيرة. التقى ”أداما” بشقيقه ”سامبا” في ساحة معركة، غار الاثنان في قلب النفق، عندما استفاق ”سامبا” كان ”أداما” غائب عن الوعي، وفي داخله راح يسترجع شريط الرحلة الشاقة، ويسمع صوت المدافع ولم يشعر إلا ومياه تسيل على وجهه من يدي شقيقه، رأيا نورا ونفقا، تبعا أثار خطوات محفورة على الأرض، وخرجا مجددا إلى نور القرية وراحا يتحسسان الصخور ويضحكان للمرة لأولى.    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات