38serv
في كل ليلة من ليالي العطلة الشتوية وغيرها من أيام الصيد البحري، ينزل العشرات من الأطفال في ساعات متأخرة إلى موانئ الصيد الخمسة المنتشرة عبر ساحل ولاية تيبــازة، ويقفون بلهفة يترقبون عودة بواخر الصيد من رحلات الإبحار نحو أرصفة الرســـو، فيترصدون الفرصة للظفر بما تصل إليه أناملهم من حبات السردين العالقة في شباك الصيد، فالفقر ينسي هؤلاء متاعب البرد ومخاطر الظلام، ويجعلهم غير مبالين بحق الاستمتاع بالعطلة. لا تقتصر الحركة والنشاط التجاري عبر موانئ تيبازة، خميستي، بوهارون، ڤوراية وشرشال على الصيادين وتجار الجملة وأرباب السفن، بل يتخلل هؤلاء فتيان في عمر الزهور، يهجرون مضاجعهم ويغزون هذه المرافئ فرادى وجماعات، حاملين معهم دلاءهم البلاستيكية، يجوبون الأرصفة ويقفزون من قارب إلى آخر باحثين عن ملئها بما يمكن حمله من شتى أنواع السمك في أوقات الوفرة، فيما يرجع الكثير منهم خائبين أيام الندرة.صغار بألبسة رثةلا تخلو ليالي المدن الساحلية بتيبازة في فترات الاعتدال البحري من حركة الفئات الصغرى التي لفتت انتباهنا ودفعتنا، خلال نهاية الأسبوع الماضي، إلى تتبع خطواتها ومرافقتها انطلاقا من عمق الأحياء الشعبية الفقيرة إلى غاية الموانئ المحلية ذات النشاط الكبير.كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل، حيث رصدنا مجموعة من الأطفال مجتمعين في نقطة الجسر بمحاذاة الطريق الوطني رقم 11، على مستوى حي جلولي بعين تاڤورايت، لا تتجاوز أعمارهم الـ14 سنة، كانوا مرتدين ألبسة صوفية رثّة، سألناهم عن وجهتهم، فقالوا إنهم ينتظرون سيارة نقل “كلونديستان” لإيصالهم نحو ميناء بوهارون الذي يبعد بحوالي 5 كلم، طلبا لكميات من أسماك السردين.حملنا ثلاثة منهم معنا وسرنا نحو الوجهة المطلوبة، فلم يتردد كبيرهم المدعو “الهادي” في الحديث، حيث قال إن هذه الفئة من الأطفال وذات الأغلبية المتمدرسة تنحدر من أحياء غارقة في الهشاشة والفقر كأحياء “بخوشة” و”مريوت” القصديريين، ويقصدون الموانئ من أجل الحصول على السمك مجانا، فيعتمدون عليه في وجبات عائلاتهم، ويوفرون عليها مصاريف الغداء والعشاء لليوم الموالي، فيما يلجأ الآخرون إلى بيع الكميات الملتقطة لجيرانهم وحتى لفائدة أشخاص آخرين بأثمان زهيدة تؤمن لهم مصاريف الضرورة اليومية.عند وصولنا إلى ميناء بوهارون في حدود الواحدة صباحا، لاحظنا مجموعة أخرى من الأطفال المنحدرين من الأحياء والبلديات المحيطة بالميناء، قادمين من بوإسماعيل، خميستي، بيرار وأعالي بوهارون، كانوا يتزاحمون ويتدافعون على الرصيف الشرقي بأعمار وملابس تكاد تتشابه، حيث صادف وجودنا هناك دخول باخرة كبيرة نحو الحوض المائي، بعد عودتها من رحلة صيد ليلية، ولم يكد قبطان الباخرة يرسو بمحاذاة الرصيف حتى قفز بعضهم في جوفها بحركات خاطفة، وهناك تنافسوا، في ظرف دقائق معدودة، على التقاط جميع أنواع السردين الذي انتشر في زوايا القارب أثناء عملية الصيد الكبرى، وانتظروا قيام القبطان برفع الشبكة الكبيرة بواسطة الآلة الرافعة، فجمعوا ما تيسر لهم من الأسماك التي كانت عالقة، وبتلك الطريقة يجني هؤلاء بعض الكيلوغرامات على مدار ساعات الليل، فيحملونها فجرا إلى منازلهم.توجهنا بعدها إلى ميناء خميستي البحرية “تشيـــفالو” فالتقينا بأطفال آخرين، لكن هؤلاء أكثر حظا من نظرائهم، فبحكم إقامتهم في عمق المدينة التي تحتضن الميناء، فإن الكثير منهم ينزل إلى الميناء بدافع الحاجة للمال، فيجود عليه البحارة بكميات كافية، خصوصا أثناء الصيد الوفير، حيث اتضح لنا أن الأطفال هناك يجمعون عدة كيلوغرامات من خلال طوافهم على جيرانهم البحارة وبعض ملاك السفن فيكون حظهم أوفر، فيقومون بعدها بإعادة بيع تلك الكميات في الموقع نفسه لفائدة صيادي الصنارة محترفي المهن الصغيرة، الذين يعتمدون على استعمال السردين كطعم في الصنارة.الصيادون وسواعد الأطفالولا يخلو ميناء تيبازة من هذا الواقع، فرغم النشاط المحدود لقوارب الصيد الكبيرة، إلا أن تواجد الأطفال يأخذ طابعا آخر. يقول بعض الصيادين إن الكثير من الأطفال لا يبرحون الميناء على مدار الفصول، وينتظرون عودة الصيادين الصغار، خصوصا أصحاب قوارب المهن الصغيرة المتخصصين في نشاطات الصيد بواسطة الشباك العائمة “الديريفون”، وهي شباك دقيقة وطويلة جدا، يتم طرحها لساعات في مياه البحر، فتلتقط كميات كبيرة من الأسماك الزرقاء، لكنها تتطلب يدا عاملة كثيفة بعد كل عملية صيد، وبالتالي يحتاج الكثير من الصيادين إلى سواعد الأطفال في انتزاع الأسماك من خيوط الشبكة، وبهذه الطريقة يضمن الكثير من الأطفال كميات من السمك نظير مشاركتهم في عملية ترتيب الشباك وتخليصها من الأسماك ذات النوع الأزرق، خصوصا “اللاتشة” و«البونيت”، وهو ما يؤمن لهذه الفئة مصدر رزق شبه دائم.في عمق شواطئ الواجهة البحرية لبوإسماعيل، يقضي بعض الأطفال عطلتهم في التنقيب عن “الديدان” وعن “الجمبري الرمادي” المعروف بـ«الشوفرات”، حيث ينزلون منذ ساعات الصباح الباكر ليتنافسوا في أشغال الحفر اليدوي على طول الشريط الرملي للظفر بأكبر عدد من الديدان التي تتكاثر في طبقات الحشيش المردوم بين رمال البحر، بينما يحمل الكثير منهم شباكا يدوية فيطاردون القشريات الساحلية ويوجهونها لاحقا لفائدة الباحثين عن الطعم وهواة الصيد.وفي هذا الموسم، يتنافس أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 7 و12 سنة في حفر خنادق ضيقة يتراوح عمقها ما بين 50 و70 سنتمترا ويستعملون أطراف أصابعهم، فيجمعون كميات معتبرة من الديدان و«الشوفرات”، ويقومون ببيعها لفائدة زبائنهم الأوفياء بمبالغ تتراوح ما بين 300 و500 دينار للعلبة الصغيرة، وهي مواد مطلوبة جدا لدى محترفي الصيد الصخري والرملي، وتوفر لهؤلاء الأطفال مصدر دخل منتظم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات