الأدمغة الجزائرية في الخارج ليست بحاجة لإغراءات مالية

38serv

+ -

أيقونة علمية تفخر بها الجزائر، خريج الجامعة الجزائرية، عبد الحميد مغلاوي المدعو عز الدين ابن مدينة ميلة، أحد ألمع الأدمغة الجزائرية التي سطع نجمها في سماء التكنولوجيا، تهافتت على خدماته كبريات الجامعات والشركات في العالم، بفضل اختراعاته وتطويره لتقنية “دي إيكس” في مجال صناعة الألمنيوم، حظي بالتقدير والتبجيل في كندا والإمارات العربية، وسعى جاهدا لرد الجميل لبلده الذي أحبه حد الثمالة قبل أن تتدخل قوى البزنسة وتنسف بطموحاته.هو رجل صبور، قليل الكلام، صارم في مهنته، متواضع، يجد حرجا في الحديث عن نفسه ومسيرته، فما الذي دفع به للحديث للصحافة؟ بعد أن استفاق من خامس عملية جراحية وأدرك أنه حي يرزق، قرر التحدث عن مساره العلمي والعملي ونقل خبرته للأجيال، سعيا منه لإفادة الغير بخبرته. استقبلنا في بيته الذي بدا فيه جليا تأثر الدكتور بالهندسة الخليجية، وكان يتوكأ على عكازة في تنقله، وكانت إلى جانبه زوجته الطبيبة وولداه وأعز ما يملك: أيوب وإسحاق.الدكتور مغلاوي، ورغم ظروفه الصحية الصعبة ومعاناته بعد 5 عمليات جراحية متتالية في ظرف سنة ونصف، أصر على البوح بمكنوناته لـ “الخبر” لعله يفيد بنجاحاته الأجيال كي يقتدوا بمسيرته الحافلة بالنجاح والتضحيات.محطات هامة على مدار 20 سنة تجرع خلالها الحلو والمركانت انطلاقة مغلاوي من بومرداس حيث اشتغل أستاذا وباحثا بالمحافظة السامية للبحث، غير أن مواقفه وجديته جلبت له منحة للخارج، وتحديدا إلى كندا، لإجراء تربص لمدة 3 أشهر، قبل أن يوافق على عرض مؤطره البروفيسور بوي بتمديد التربص لفترة مماثلة. وهناك فكر مغلاوي مليا في مصير مسكنه ووظيفته في بومرداس، “غير أن سؤالا استفزني باستمرار: هل أصلح للبحث أم لا؟ وهل حياتي تساوي مسكنا؟”. بعد تفكير ملي قرر مغلاوي التنازل عن امتيازات الوظيفة والسكن وتمديد التربص لثلاثة أشهر أخرى، وأثناء دراسته نشرت له 3 أبحاث في المجلة الأمريكية العلمية الشهيرة “ماتيماتيكل مودلينغ”.لدى عودته إلى الجزائر تشبث به البروفيسور بوي، مدير مجمع البحث في هندسة الطرائق والأنظمة المعروفة اختزالا “قريبس”، واقترح عليه عرضا مغريا للبقاء، لكنه رفض العرض وأصر على العودة. وعاد الدكتور إلى وظيفته ببومرداس، وكانت الجزائر حينها تعيش وضعا أمنيا متأزما.في اليوم المشئوم يوم مقتل الرئيس محمد بوضياف سنة 1992، أحس الدكتور بأن الجزائر تسير نحو المجهول، فقرر الرحيل إلى كندا بعد أن جدد الاتصال بالبروفيسور بوي الذي جهز له كل الظروف، ولم يكن بحوزة عز الدين سوى 500 دولار.في سبتمبر 1992 التحق عبد الحميد بشركة “قريبس” بعد أن حصل على منحة بمساعدة من السفارة الجزائرية. وفي ختام تكوينه قدم بحثا حول “خلايا الإلكترونيز” وهو الموضوع الذي كان جديدا في الدكتوراه.تخرج مغلاوي من جامعة “لافال” بمقاطعة كيبيك بشهادة دكتوراه، عن بحث تمحور حول “التعريف والمراقبة لخلية إلكترونيز”، وهي خلية للألمنيوم. على إثرها اتصلت به شركة “ألكن” (ألمنيوم كندا) ليدرك الطريق نحو التألق.في ظرف أقل من 3 سنوات، أنهى مغلاوي الدكتوراه في مارس 1996، وهو وقت قياسي بالنسبة للجامعة، حينها دخل قائمة مشاهير علماء العالم ببحث حول “تقنيات التعرف التنبؤي والنمطي في مجال التحكم في خلايا الوقود”، الأمر الذي أكسبه سمعة وتقديرا عالميين بعد إنجازه الكبير في مجال العلوم والهندسة.يروي مغلاوي مقدمات انتقاله إلى الإمارات العربية وتحديدا إلى دبي، ففي صائفة 1996 حضر مدير شركة “دوبال” (شركة دبي للألمنيوم) إلى كندا بغرض إقامة تربص في شركة “قريبس”، وفي ختام التربص تلقى الدكتور عرضا للعمل بشركة “دوبال” في دبي، وحينها كان له عرض مغرٍ من شركة “كيبيك للألمنيوم” لمدة 5 سنوات، بعد أن حصل على أحسن عمل يطبق في المجال الصناعي ومُنح مكافأة قدرها 10 آلاف دولار في 1995.عرض “دوبال” كان مغريا حقا وأضعاف عرض كيبيك، وكانت دبي بالنسبة للدكتور عالما جديدا يستحق الاكتشاف، فقرر الانتقال هناك. عاد في مارس 1996 إلى الجزائر وتزوج جارته الطبيبة التي كان لها دور أساسي في نجاح مسيرته المهنية والصحية، وكانت بحق عضده الأيمن كما يقول، بحيث ساهمت بشكل كبير في نجاحاته وتألقه.دبي مفتاح النجاح و “دوبال” صنعت عالما من طراز مغلاويفي دبي مرّ مغلاوي بثلاث مراحل هناك مع شركة “دوبال”. في المرحلة الأولى قام بتكييف نظامه مع نظام شركة دبي للألمنيوم وشريكها “كومالكو” مكتب دراسات إنجليزي، النظام معروف بـ “سي دي 20”، ثم تم إخضاع ذلك لجهاز مراقبة ليثبت نجاعة نظامه.في المرحلة الثانية أبدت “دوبال” رغبة في تطوير تقنية صناعة الألمنيوم “سي دي 26” ليستجيب لطموحات إدارته، وطلب منه متابعة هذه التقنية والعمل على تطويرها، حينها جاءت اللحظة المناسبة فقال في نفسه “هذه فرصتي وقد حان دوري”. حان الوقت لتطبيق الدكتور الجانب النظري الذي برع فيه وتطوير نظام “سي دي 26” بتطبيق جزء من اختراعه، وفي ظرف 5 أسابيع بدأت النتائج تظهر وتحسن المردود على مستوى 5 خلايا للألمنيوم، والتي أصبحت أكثر إنتاجية، حتى فاجأ ذلك شركة “كومالكو”. بالنسبة للدكتور كانت تجربة ناجحة للغاية وانطلاقة مشجعة ومخبر تجارب مفيدا، وحظي بتقدير واحترام الجميع.سارعت “دوبال” لتبني الاختراع وسجلته في مكتب أمريكي ثم في كندا وأستراليا، وأصبح لها حق ملكية الاختراع، وكانت سعادة مغلاوي كبيرة بالإنجاز، لأن قيمة أي بحث تكمن في نجاحه من الناحية التطبيقية وتجسيده ميدانيا. لكن تلك السعادة كانت ناقصة بالنسبة للدكتور الذي شعر بشيء من الحسرة، وقال “كنت في كندا وفي دبي أشعر أنني ذلك الجندي الذي فر من ساحة المعركة وتخلى عن دوره، لما كانت الجزائر تعيش وضعا أمنيا كارثيا والناس تموت”.من صفات النجاح عند الدكتور: الصبر وحسن تحين الفرص وانتظار الوقت المناسب للتدخل.في 2004 وبعد 7 سنوات من الانتظار، رُزق الدكتور بطفلين بهيي الطلعة إسحاق وأيوب، كان مولدهما بالجزائر لأنه ببساطة متعلق ببلده إلى درجة كبيرة، حياته تغيرت بمجيء التوأم الذي ملأ دنياه سعادة وزاده إصرارا على التحدي. في مرحلة ثالثة طلبت “دوبال” من شريكها “كومالكو” أن يطور تقنية ونظام “سي دي 30” والرفع من الطاقة الكهربائية المستخدمة، فرفضت “كومالكو” لأن النتائج لم تكن مضمونة، ومرة أخرى يقفز الدكتور على الفرصة، وقال في قرارة نفسه “هي فرصتي لأن أكون أو لا أكون”. ولأن المغامرة كانت صعبة والتحدي كبيرا، تفرغ كلية لمهمته، وعكف على الكمبيوتر من أجل تطوير التقنية. يقول “استعنت بخبرة كومالكو وبحثت في جوانب النجاح والفشل لديها”، واستغرقت العملية حوالي 6 أشهر وبعدها وصلت اللحظة الحاسمة، لحظة التجريب التي حبست أنفاس الدكتور. كان ذلك في 2005، ونجحت التجارب التطبيقية دون أي خلل، وأطلق على التقنية الجديدة اسم “دي إيكس” بمعنى “دبي بعدد مجهول من القنوات الناقلة للكهرباء”. وكانت أجمل هدية قدمها الدكتور لزوجته في عيد ميلادها فطارت فرحا. ومن باب “لا تبخسوا الناس أشياءهم”، يعترف الدكتور مغلاوي بمساهمة الزوجة في نجاحه وبفضل “دوبال “عليه.بعد أيام حضر سويسريون لإجراء تجارب لتقنياتهم في “دوبال”، وبعد نقاش مطول معهم اقترحوا على الدكتور الجزائري راتبا شهريا مغريا بسويسرا، لكنه رفض بعد أن اشتم في العرض رائحة “رشوة”، واعتذر لهم. بعد ذلك وصلت شركة “دوبال” إلى مرحلة بيع وتسويق تقنية “دي إيكس”، وكان لابد من تغطية علمية لهذا الاختراع، فكان لها ذلك بحصولها على نموذج للتغطية العلمية حتى أصبحت التقنية صحيحة علميا.حقيقة تخلي الإماراتيين عن مشروع بلارة وبني صاففي مسعى لرد الجميل للوطن، فكر الدكتور مغلاوي في إقامة مصنع للألمنيوم بالجزائر، وأقنع الإماراتيين بذلك باعتبار أن الجزائر تتوفر على الغاز وأنها قريبة من أوروبا، لاسيما بعد غلق الكثير من مصانع الألمنيوم بالقارة العجوز بسبب الارتفاع الجنوني للطاقة وعجز الأوربيين عن مسايرته.يقول الدكتور “اتصلنا بالسلطات الجزائرية، وكان وزير التجارة حينها الهاشمي جعبوب الذي قدم كل التسهيلات، وتنقل الوفد الإماراتي إلى بلارة في جيجل، غير أن المنطقة التي كانت تمتد على مساحة 530 هـكتار كانت بعيدة عن ميناء جنجن، والنقل عبر السكة الحديدية مكلف، فاقترح الوفد الحصول على موقع آخر على البحر وقريبا من الميناء، لكن والي جيجل حينها لم يجد العقار المناسب رغم اجتهاده، وجاء اقتراح من وزير الطاقة حينها شكيب خليل لإقامة المصنع ببني صاف في ولاية عين تموشنت لتوفرها على الغاز وقربها من البحر، لكن وبعد القيام بكل الإجراءات لانطلاق المشروع تبخر الحلم ونُسف المشروع في 2008، فضلا عن أن السلطات الجزائرية فضلت الشراكة مع شركة “بيشني” الفرنسية، ما اضطر الإماراتيين للاستغناء عن المشروع وإقامته في مدينة “الطويلة” بالإمارات، وهو المصنع الذي كان كان سيشغل 2000 عامل.نجاح “دي إكس” حفز الدكتور على نقل التكنولوجيا لبلادهبعد انطلاق مشروع “الطويلة” ونجاح “دي إكس”، قرر الدكتور مغلاوي العودة إلى الجزائر، قال “مهمتي انتهت في دبي وعلي تقديم خدمة لوطني”، فكانت إغراءات كبيرة من شركة “دوبال” من أجل البقاء، وخُص براتب شهري قيمته 16600 دولار شهريا وامتيازات أخرى عديدة، غير أنه استغنى عن كل شيء وآثر العودة لبلده. ترك الدكتور مغلاوي بصمات خالدة في دبي وتحديدا في شركة “دوبال” التي أصبحت مستقلة تماما بفضل اختراع مغلاوي ولم تعد بحاجة لاقتناء التكنولوجيا من السوق.لم ينس الدكتور الجزائري خيبة الأمل الكبيرة بعد أن نسف مشروع مصنع الألمنيوم بالجزائر غيرةً على بلده، في سنة 2008 عاد إلى الجزائر وقرر الاستثمار ببلده وتوظيف خبراته التكنولوجية فيها والمساهمة في النهوض بالاقتصاد الوطني، وقرر إقامة مصنع لتكرير الزيوت المستعملة، والفكرة استهوته بحكم أن ولاية ميلة يوجد بها سد بني هارون، ومحطات الغسل والتشحيم تلقي بزيوتها ونفاياتها نحو السد دون وجود محطات تصفية متخصصة لمثل هذه النفايات الخطيرة والسامة. ووجد الدكتور استجابة وترحيبا كبيرين من وزارتي البيئة والصناعة، وتمكن من إنشاء شركة “ميلاف إيكولوب”، وعقد شراكة مع شركة وطنية. وفي سنة 2012 استفاد الدكتور من قطعة أرض في إطار الاستثمار ببلدية وادي العثمانية. وكان مغلاوي حينها يدرّس بجامعة جيجل، وقد أنهى كل الإجراءات القانونية لتجسيد مشروعه.5 عمليات جراحية متتالية تنسف المشروع الحلمبعد أن كان المشروع على وشك الانطلاق، تعرض الدكتور مغلاوي لوعكة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى الجامعي بقسنطينة ومنه إلى فرنسا، وبعدها إلى تونس، في رحلة مع المرض لسنة ونصف، خضع خلالها لخمس عمليات جراحية متتالية، اثنتان منها على مستوى القلب، لتتوالى المتاعب بعد أن تعرض لكسر، وتحول الأقدار دون أن يتوصل الدكتور إلى تجسيد مشروعه الحلم، لأن السلطات ببساطة انتزعت منه القطعة الأرضية بحجة انتهاء الآجال، ما أدخل الدكتور من جديد في كابوس آخر.الدكتور مغلاوي ورغم المرض واستعانته بعكازات في التنقل داخل أرجاء البيت، فإن طموحاته في إقامة مصنعه لا زالت قائمة، وقد بدأت حالته الصحية تتحسن تدريجيا. يصر دائما على تجسيد مشروعه الهام، ورسالته لوالي ميلة لتمكينه من استعادة قطعته المسلوبة منه.حسرة لا تفارقه على ضياع مصنع الألمنيوم للإماراتيينوتبقى الحسرة الكبيرة تسيطر على تفكير مغلاوي بتضييع فرصة إقامة مصنع الألمنيوم بالجزائر، وقال إن الذين تسببوا في ذلك لا يحبون الخير للجزائر، لأن المصنع كان سيوظف 2000 عامل وسينتج مليون طن من ألمنيوم سنويا بسعر 1800 دولار للطن الواحد، خاصة بعد انهيار أسعار الغاز الذي أصبح يُسوق لإسبانيا بأسعار زهيدة جدا.وعن الأدمغة الجزائرية في الخارج، يقول مغلاوي إن هؤلاء لا يطلبون امتيازات كبيرة مثلما يعتقد البعض، وإنما هاجسهم الأكبر غياب المناخ الملائم للعمل في ظل الذهنية السائدة في الجزائر، مؤكدا أن الجزائر تملك كل الإمكانيات المادية والبشرية والطبيعية للإقلاع الاقتصادي، لكن بشرط توفر الإرادة السياسية وضمان مناخ ملائم. ويبقى أكبر استثمار للدكتور مغلاوي هو الاستثمار في التوأم أيوب وإسحاق من أجل استكمال مشوار الوالد، فهما مشروع عالمين وكفاءتين يسهر الدكتور على أن يكونا خير خلف لخير سلف، وأمله كبير في تحقيق ما عجز عنه الوالد بداعي المرض.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات