38serv
“الجزائر هي جنتنا”.. يردد روبير مينار رئيس بلدية بيزيي الفرنسية، قبل 8 أشهر، وهو يغير تسمية شارع في مدينته من 19 مارس 1962، تاريخ توقيع اتفاقيات إيفيان، إلى شارع الكومندان إيلي دو سان مارك أحد عتاة التعذيب في ثورة الجزائر ضد المستعمر.. انقلاب من النقيض إلى النقيض، يعكس مسار من كان يوما ما مؤسسا لمنظمة مراسلون بلا حدود ومدافعا عن حرية التعبير، وتحول فيما بعد إلى أبرز وجوه اليمين المتطرف ودعاة خطابهم العنصري في فرنسا. ولد روبير مينار في 6 جويلية 1953 بوهران، من عائلة شهيرة استقرت في الجزائر سنة 1850 مع بداية توافد الأقدام السوداء إليها. كان له 8 إخوة لما غادرت عائلته الجزائر في الظروف التي أعقبت الاستقلال، وقد استقروا جميعا في مدينة بيزيي التي تقع في جنوب فرنسا وتقابل شواطئ الجزائر الغربية على الضفة الأخرى.وهران مسقط رأسهكان إيميل والد روبير مينار يعمل في الطباعة ومربي دجاج كذلك، فضلا عن نشاطه النقابي وانتمائه للشيوعيين، لكنه طلق أفكاره “المثالية” مع اشتداد الثورة الجزائرية، وانقلب عضوا في المنظمة العسكرية السرية، أبرز تنظيم إرهابي واجهه الجزائريون ضمن مسارهم التحرري. أما خاله فكان أيضا من أشد أنصار بقاء الجزائر تحت السلطة الفرنسية، وعرف عنه قيادته لطائرة كان على متنها الانقلابيون على نظام ديغول في الجزائر، وكلفه ذلك السجن.تابع مينار دروسا دينية لرغبته في أن يكون راهبا رغم معارضة والدته، غير أن الأقدار ساقته بعد إغلاق المدرسة الدينية إلى دراسة الفلسفة في جامعة مونبولييه، وهو خيار لم يكن يستجيب لرغبته. كان مينار قريبا من الأوساط التروتسكية ومعتنقا لمذهب الفوضوية الذي يناضل من أجل إزالة كل سلطة للدولة، وناضل في صفوف الرابطة الشيوعية الثورية بين 1973 و1979، قبل أن يلتحق بالحزب الاشتراكي الذي يعج بتيارات مختلفة، اختار هو أن يكون ضمن يسار اليسار. استقال مينار من الحزب الاشتراكي بعد 6 أشهر من فوز الرئيس فرانسوا ميتيران، وكان أول رئيس جمهورية اشتراكي في الجمهورية الخامسة، فتفاجأ مينار كما يذكر من هرع الاشتراكيين إلى المناصب، وقرر ترك الحزب.في غمرة حركة الإذاعات الحرة، أسس مينار سنة 1978 راديو “بوماراد”، كما جاء في موسوعة ويكيبيديا، دفاعا عن المحيط بعد كارثة حلت بالمنطقة تسببت فيها شركة تنتج المبيدات الحشرية. وفي سنة 1983، أصبح روبير صحفيا في راديو “فرانس إيرو” وبقي كذلك حتى 1989.بداية الرحلة مع “مراسلون بلاحدود”التقى مينار، خلال زيارة قادته لليابان مع مجموعة من الصحفيين، رئيسَ منظمة أطباء بلا حدود روني برومان (82-94) الذي اشتكى له من قلة اهتمام الصحفيين في العالم بتغطية الكوارث العالمية والصراعات الدموية التي تشهدها مناطق عدة في العالم الثالث. ومن هنا تبلورت فكرة إنشاء منظمة دولية تعنى برصد هذه المسائل، ومن ثم عمل مينار على تجسيدها وتحقق له ذلك رسميا في 25 جوان 1985 بمونبولييه، مع أصدقائه الثلاثة الذين رافقوه في رحلة طوكيو وهم ريمي لوري وجاك مولينا وإيميليان جوبينو، بالإضافة إلى روني برومان وجون كلود جيلبو، وقد حظيت هذه المنظمة بعد تأسيسها بدعم فرانسوا ميتيران.وجه مينار “مراسلون بلا حدود” في بدايتها إلى مكافحة تهميش وسائل الإعلام للصراعات التي تعتبرها هامشية، وأنشأ بالمقابل مرصدا للمعلومة يتولى متابعة حرية وسائل الإعلام في تناول الأخبار.وقد نجح مينار بهذه الاستراتيجية في جعل “مراسلون بلا حدود” واحدة من أكبر المنظمات التي تعنى بالدفاع عن حرية التعبير في العالم، وهو ما حرمه من التمثيل في العديد من دول العالم التي كانت ترى في عملها تدخلا في شؤونها الداخلية.خلال فترة رئاسته للمنظمة، اتُّهم روبير مينار بعدم الموضوعية في تعاطيه مع حرية الصحافة في العالم، وهو ما دفع جون كلود جيلبو أحد المؤسسين إلى الاستقالة، بعد أن رفض تعامل المنظمة مع وسائل الإعلام الفرنسية التي كانت تتجنب انتقادها. كما اتُّهمت “مراسلون بلا حدود” بالانحياز إلى مناوئي شافيز في الصراع الذي كان دائرا في فنزويلا، في مقابل توجيه انتقادات محتشمة لحال الإعلام في الولايات المتحدة، رغم أن المال يسيطر عليه بشكل كبير. كما اتُّهمت المنظمة بإغفال التطرق إلى الجرائم التي كان يرتكبها الجيش الإسرائيلي في حق الصحفيين الذين كانوا يغطون الأحداث في فلسطين المحتلة، وبالانتظار كثيرا قبل مساندة مصور قناة الجزيرة سامي الحاج الذي كان معتقلا في سجن غوانتانامو الأمريكي الرهيب في كوبا، وكلفها ذلك اتهامات بتلقي أموال من “سي آي أي” نظير شراء صمتها عن بعض التجاوزات التي ترتكبها في العالم، الأمر الذي نفاه مينار جملة وتفصيلا.إلى قطر..أمام عاصفة الانتقادات التي كان يواجهها، قدم مينار استقالته بشكل مفاجئ في 30 سبتمبر 2008، وغادر إدارة “مراسلون بلا حدود”. وفي بداية شهر مارس من نفس السنة، قبل مينار عرضا من زوجة الأمير القطري حمد للإشراف على مركز حرية المعلومة في الدوحة الذي أنشئ سنة 2007 بإيعاز من روبير مينار نفسه. حظي المركز بكرم السلطات القطرية التي كانت تغدق عليه 3 ملايين سنويا، وكان المركز موجها لاستقبال ودعم الصحفيين المضطهدين في العالم. قام مينار بتطعيم المركز بشخصيات معروفة في فرنسا مثل الإعلامي باتريك بوافر دارفور والوزير الأول سابقا دومينيك دوفيلبان، لكنه لم يسلم من الانتقادات الشديدة التي كانت ترى في احتضان قطر للمركز تناقضا مع طبيعة نظامها غير الديمقراطي. واستسلم روبير مينار في النهاية لهذا الواقع وقرر الاستقالة سنة 2009، بعد أن اعتبر أن عمله يفتقد للحرية وللإمكانيات.الانقلاب.. من الاشتراكية إلى اليمين المتطرف !اليساري الذي تربى على أفكار الشيوعية ثم الاشتراكية، انقلب بعد مشواره الصحفي الطويل إلى كافر بكل هذه العقائد، معتنقا قيما أخرى تتقاطع في مضمونها مع ما يؤمن به اليمين المتطرف في فرنسا. كان مينار يقول في 2011 إنه لم يصوت يوما لصالح الجبهة الوطنية التي أسسها جون ماري لوبان، لكنه يوضح بأنه يشاركها جانبا واسعا من برنامجها الانتخابي، عدا دعوتها إلى إخراج فرنسا من العملة الأوروبية الموحدة “الأورو”، لأن أفكاره الاقتصادية أكثر ليبرالية مما تدعو إليه مارين لوبان، وريثة أبيها على عرش الجبهة الوطنية.عرف عن روبير مينار خلال هذه الفترة أنه قائد حملة إزالة الشيطنة عن الجبهة الوطنية التي كانت أفكارها تُسوَّق في الإعلام على أنها متطرفة، وأصبحت فيما بعد تُتداول على مائدة النقاش دون حرج، بل أصبحت وسائل الإعلام تتهافت على طلب رأيها لأن قادتها يحققون الغاية التجارية من استضافتهم على البلاطوهات.الحضور الإعلامي الطاغي لروبير مينار شجعه على خوض غمار السياسة سنة 2014، عبر الترشح للانتخابات المحلية في مدينته بيزييه، وبعد معركة حامية مع مرشح التجمع من أجل حركة شعبية (اليمين)، فازت قائمته التي ضمت خليطا من معتنقي أفكار اليمين واليمين المتطرف، وأصبح مينار رئيسا لبلدية بيزيي.يتحدث مينار منذ انتخابه بخطاب يستثير الحمية والوطنية الفرنسية ضد الأجانب الذين يتدفقون على بلاده أو الذين استوطنوها منذ زمن. وجعل روبير مينار من مدينته بيزيي مكانا لتطبيق الأفكار التي ينادي بها اليمين المتطرف، مستفيدا من الصلاحيات النسبية التي يمنحها له منصبه.ففي شهر ماي الماضي مثلا، كسر أحد الطابوهات الكبرى في فرنسا، بإجرائه إحصاء على أساس عرقي للتلاميذ المسلمين في مدارس مدينته، وهو ما تحرمه وتعاقب عليه قوانين فرنسا لأنه يخرق مبادئ العلمانية التي لا تميز بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس أو العرق. وعكس ذلك، صرح روبير مينار لإحدى القنوات الفرنسية أن 64.9% من التلاميذ في بلديته مسلمون، وقال إنه توصل إلى هذا الرقم عبر إحصاء الأسماء العربية مثل محمد.الحنين إلى “الجزائر الفرنسية”!سياسة روبير مينار في بلديته لم تكن موجهة ضد المسلمين عامة فحسب، ولكن للجزائريين منهم تحديدا، نظرا للماضي الثقيل الذي يربطه بالجزائر التي اضطرت عائلته للرحيل عنها بعد أن عادت لأهلها. مينار أراد الانتقام بطريقته من الجزائر، بإعادة تسمية شارع كان يحمل روح الفترة التي سبقت استقلال الجزائر، فقرر أن يغيره من 19 مارس 1962 تاريخ اتفاقيات إيفيان إلى شارع الكومندان إيلي سان مارك الذي شارك في عمليات تعذيب ضد الثوار الجزائريين. وفي غمرة المراسيم أطلق مينار العنان لنفسه في خطاب يكشف موقفه الذي مازال متمسكا بـ “الجزائر فرنسية” رغم مرور 53 سنة على الاستقلال. “جنتنا هي الجزائر كما كانت تقول أمي.. التجرؤ على القول بأن حرب الجزائر انتهت في 19 مارس ليس كذبة فقط، ولكنه شتيمة لذاكرة كل من تم تعذيبه. الجزائر ليست كما يقول بنجامين ستورا الذي لا يتوقف عن الكتابة: أرادوا بالأمس الجزائر الجزائرية وهم لا يريدون اليوم فرنسا فرنسية”. وتابع “لا نريد أن نكون ضمن فكرة التوبة”، مضيفا بكلمات تمدح الحركى وتدعو المسلمين إلى عدم إخفاء حقيقة التاريخ التي تقول حسبه إن إيلي سان مارك كان من الذين يردون الموت من أجل أفكارهم وفي سبيلها”.. دفاع مينار عن الجنرالات الذين كانوا يُعذِّبون في الجزائر يعيد صياغة السؤال عن حقيقة الفترة التي كان يجوب فيها العالم، والجزائر تحديدا في عدة مرات، مدافعا فيها عن حرية التعبير..!
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات