38serv
عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلّا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ الدّنيا، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَنًا تَوَّابًا نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ” رواه الطبراني. قال الإمام المناوي رحمه الله في شرح الحديث “ما من عبد مؤمن إلاّ وله ذنب يعتادُه الفَيْنَة بعد الفَيْنَة” أي الحين بعد الحين والسّاعة بعد السّاعة، يقال: لقيته فينة والفينة، “أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه أبدًا حتّى يُفارق الدّنيا، إنّ المؤمن خُلِقَ مُفْتَنًا” أي ممتحَنًا، يمتحنه الله بالبلاء والذّنوب مرّة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الّذي فتن كثيرًا، “توّابًا نسيًّا إذا ذُكِّرَ ذَكَرَ” أي يتوب ثمّ ينسى فيعود ثمّ يتذكّر فيتوب.يُروَى أنّه لمّا شرب قدامة بن عبد الله الخمر متأوّلاً جُلِدَ، فكاد اليأس يدُبّ في قلبه، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه يقول: قال تعالى {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ما أدري أيّ ذنْبَيْك أعظم، استحلالك للخمر أوّلًا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا؟إنّ الذّنوب قدر واقع لا بدّ منه؛ لأنّ الأرض مليئة بأسباب الذّنب، من شيطان لا همّ له إلاّ غواية البشر والقعود لهم بكلّ صراط، ونفس أمّارة بالسّوء، وهَوًى مضلّ عن سبيل الله، إلى شياطين الإنس الّذين يميلون بالنّاس إلى الشّهوات ميلاً عظيمًا، ويوعدون ويصدّون عن سبيل الله مَن آمَنَ يَبْغُونَها عِوَجًا، فمهما اتّخذ الإنسان الحيطة والوقاية والحذر من الذّنوب فإنّه غير سالم منها. فالذّنوب من قدر الله تعالى، وكلّ إنسان مكتوب عليه حظّه منها كما كتب عليه حظّه من المرض، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، قال طاووس: ما رأيتُ أشبه باللّمم ممّا قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم “إنّ الله كتب على ابن آدم حظّه من الزّنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين: النّظر، وزنا اللّسان: النُّطق، والنّفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذّبه” رواه البخاري. ولكن هذا لا يعني التّراخي والتّهاون مع الذّنوب وإتيانها بدعوى أنّها قدر وواقع لا مفرّ منه. كما لا يمنع من مكافحة المرض وعلاجه والتخلّص منه ومن آثاره، لأنّ المرض إذا ترك بدون علاج تفاقم وأهلك البدن، وكذا الذّنب إذا ترك بدون علاج تفاقم وأهلك الرّوح، وهلاك الرّوح أشدّ من هلاك البدن، لذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف:201، وقال عليه الصّلاة والسّلام “كلّ بني آدم خطّاء، وخيرُ الخطّائين التوابون” أخرجه الترمذي.وإنّ النّاظر إلى الشّرع الحنيف يُدرِك بجلاء أنّ مراد الله تعالى من العبد ليس مجرّد السّلامة من المخالفة، بل المراد بقاء العلاقة بين العبد وربّه، فيُطيعه العبد فيُؤجَر، ويذنب فيستغفر، وينعم عليه فيَشكر، ويقتّر عليه فيدعوه ويطلب منه، ويضيّق أكثر فيلجأ ويضطر، وهكذا. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “والّذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنِبون فيَستغفرون الله فيَغفِر لهم”. قال الإمام الطِّيبي رحمه الله “ليس الحديث تسلية للمنهمكين في الذّنوب كما يتوهّمه أهل الغرّة بالله؛ فإنّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنّما بُعِثوا ليَردعوا النّاس عن غشيان الذّنوب، بل بيان لعفو الله تعالى، وتجاوزه عن المذنبين؛ ليَرغبوا في التّوبة”.لذا قال سيّدنا عليّ رضي الله عنه “خياركم كلّ مفتّن توّاب، قيل: فإن عاد؟ قال: يَستغفر الله ويَتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يَستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يَستغفر الله ويتوب، قيل: حتّى متَى؟ قال: حتّى يكون الشّيطان هو المحسور”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات