38serv
اجتمعت ثلاثية الإهمال والنسيان وعبث الإنسان لطمس المعالم الأثرية في بلادنا، التي تحولت من شواهد مادية على الإرث الحضاري الإنساني، تجذب السياح، إلى فضاءات مشبوهة ومقززة. فمغارة سيرفانتيس بالعاصمة أصبحت مأوى للمتشردين والمدمنين، وتمثال الشهيد علي منجلي بقسنطينة جذع أنفه، وساحة المغرب لم تعد أجمل ساحات وهران، وباب الدزاير بالأغواط ليس إلا مفرغة عمومية.. والقائمة طويلة.فيما تحوّلت ساحة حرية الصحافة إلى بازارمغارة سيرفانتيس في العاصمة تؤوي المتشردين والمخمورينإن زرت أي بلد، وكنت مولعا بالتاريخ والثقافة والأدب، لابد أن تتوقف بالأماكن التي مر منها مبدعوه، وزيارتك بالتأكيد استثمار للسياحة في البلد، فلا يمكن أن تزور لبنان مثلا دون أن تعرج على متحف جبران بمسقط رأسه في قرية بشري، والأمر نفسه لكل المبدعين في المعمورة.وفي الجزائر، أين مر قبل قرون أحد أشهر الكتّاب في تاريخ الأدب، الإسباني ميغيل دي سيرفانتيس، واستقر أسيرا لخمس سنوات في المغارة التي تحمل اليوم اسمه، عرفنا جيدا كيف تحوّل المكان إلى مزار للمدمنين والمخمورين والمتشردين والأهم.. لرمي القمامة.فضلات وروائح تزكم الأنوففإن أحببت زيارة المكان الواقع بحي بلوزداد الشعبي بالعاصمة، آملا في التأمل في المغارة التي أسر فيها سيرفانتيس بعد بيعه في سوق النخاسة بالجزائر، وقضى بين جدرانها خمس سنوات من عمره، قبل أن يكتب واحدة من عيون الأدب العالمي، “دون كيشوت دي لا مانشا”، فعليك أن تتسلح أولا بكمامات لمقاومة الرائحة التي تزكم الأنوف، وأن لا تكون بمفردك فقد تصادف سكيرا أو مدمنا، وطبعا لا تنسى المصباح الكهربائي، فالمكان مظلم وموحش جدا. وهو ما وقفنا عليه في زيارتنا للمكان الذي يبدو من الخارج هادئا نظيفا، لكن بمجرد أن صعدنا الدرج، استقبلنا شابان يبدوان منقطعين عن العالم، يدخنان.. حاولنا أن نكسب ودهما للسؤال إن كان المكان أمانا لولوج المغارة، خاصة بعد أن لاحظنا وجود قفل على الباب، فرد أحدهما “يمكنكم الدخول، القفل حطمه كمال الأعمى وهو ينام فيه”.. وكمال هذا متشرد معروف في حي بلوزداد.دفعنا الباب برفق حتى لا نوقظ النائم، وخير ما فعل الشابان أنهما أخبرانا بوجوده في المغارة، لأننا أيقضانه من سباته وقطعت كلماته سكون المكان، وبالتأكيد لو لم نكن نعلم بوجوده كنا حسبنا روح سيرفانتيس لا تزال تسكن المكان الذي شهد فيه العذاب والذل.وفي المدخل بمجرد أن تدفع الباب، تستقبلك عشرات قارورات المياه البلاستيكية الفارغة، وقارورات خمر تناثر زجاجها على الأرضية الرطبة، ورائحة تزكم الأنوف، وظلام دامس لم يزعج المتشرد الذي احتمى بالمكان، لأنه في الأساس لا يبصر.يتبعنا أحد الشابين ويقاطعنا وأنا أحدث مرافقي عن وحشة وظلمة المغارة، وهو أمر عادي في الحقيقة، فالمغارة أصلا مظلمة، لكن بالنسبة لموقع يفترض أنه مزار سياحي يفترض أنه مزود بالإنارة، يقول الشاب “في السنوات الماضية وضعت أضواء لإنارة المكان، لكن سرعان ما تم إزالتها لأسباب مجهولة”.سألت الشاب إن كان هناك حارس، فأجاب “نعم، لكنه لا يأتي دائما، كما يتم من حين لآخر تنظيف المكان، إلا أن نظافته لا تستمر طويلا”.حسرة إسبانيةǃربما لو استيقظ سيرفانتيس من قبره ما كان ليهتم بمآل المكان الذي شهد عذابه لسنوات قبل أن تجمع أسرته الفدية وتتمكن من تحريره من الأسر، لكن ليس هذا هو حال أبناء جلدته الإسبان الذي لا يفوتون زيارة المكان عند نزولهم في الجزائر، مرفقين بعناصر الشرطة، فمصالح الأمن تعرف أن المكان ليس آمنا دائما.يتدخل الشاب الآخر معلقا “أحيانا يزور أجانب المكان وأكثرهم من الإسبان الذين لا نفهم لغتهم، لكن لا يصعب قراءة استغرابهم وحسرتهم على حال المكان وهم يلجون المغارة وأيديهم على أنوفهم”.خرجنا من المغارة وتوقفنا في الساحة المجاورة لها، أين توجد مغارة أخرى في المدخل، بقايا السجائر كانت تملأ أرضيتها، ورائحة الفضلات والبول تحبس الأنفاس.. ورغم وحشتها وغياب النظافة، إلا أن الساحة تتحوّل مساء إلى فضاء للعب كرة القدم و”البابي فوت”، مثلما قال الشابان اللذان وجدناهما في المكان.. لكن ما إن يرخي الليل سدوله، حتى يحلّ زوار الليل بمشروباتهم الروحية وسجائرهم المعبقة بما يُذهب العقل.قبل مغادرة الساحة، عدت لألقي إطلالة سريعة، تبعني أحد الشابين، فسألته إن لم يتدخل أفراد الشرطة التي ترافق السياح من حين إلى آخر لإخراج المتشرد الذي استقر بالمغارة، فرد أنها طردته أكثر من مرة، حتى أنها اعتدت عليه بالضرب في مرات سابقة.كلمات استفزت النائم الذي انتفض من تحت الأغطية البالية التي تحمل كيلوغرامات من الأوساخ والفضلات، وهو يحمل عصاه البيضاء ملوحا بالسماء “تكذب عليا وأنا موجود، فمن يتجرأ على ضربي يا هذا؟”، يرد الشاب بقهقهة عالية.. أما أنا فقد ذكرني المشهد ببطل رواية سيرفانتيس التي أدخلته التاريخ، دون كيخوتي، أو دون كيشوت كما عرفناه في الترجمة العربية، وهو يقاتل طواحين الهواء.ساحة حرية الصحافة وزوار الليلتركنا مغارة سيرفانتيس إلى ساحة حرية الصحافة بساحة حسيبة بن بوعلي بالعاصمة، للوقوف على حال الساحة التي أنشئت أساسا لتخليد ذكرى فرسان الكلمة الذين اغتالهم صناع الموت في سنوات الإرهاب والدم.الساحة التي تحوي النصب التذكاري المخلد لذكر شهداء الكلمة، ظلت لسنوات مرتعا للسكارى والمدمنين والمنحرفين، ومكانا مفتوحا لكل من يريد قضاء حاجته.واهتدت السلطات المحلية في محاولة منها لإعادة الاعتبار للمكان، إلى تحويله إلى “بازار” حقيقي، فتارة يتحوّل إلى معرض للصناعات التقليدية، وأخرى للأواني الفخارية، أو لبيع العسل والنباتات، وهو المعرض الذي وجدناه عند زيارتنا للساحة من أجل إعداد هذا الموضوع.فلا شيء يشير في الساحة إلى أنها التفاتة لأصحاب مهنة المتاعب، غير النصب الذي يتوسط الساحة واسمها المدوّن في أعلى النفق المؤدي إلى محطة آغا، إذا استثنيا التغطية الإعلامية التي يخصصها الزملاء لهذه المعارض التي تقام في “بيتهم” من حين إلى آخر.وليلا.. عندما ترفع السلع وينصرف البائعون، يعود زوار الليل لاحتلال المكان الذي لا يتذكره المسؤولون إلا في عيد أصحاب مهنة المتاعب ليضعوا عليه باقة ورد ويقرؤون الفاتحة على أرواح الراحلين.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات