38serv
إنّ من أعظم الأسباب الّتي أدّت إلى تأخّر المسلمين وتخلّفهم؛ غياب صفة الإتقان في أعمالهم وعدم الأخذ بمهارات الجودة والإتقان في ميادين التعليم والثقافة والعلوم والصناعة والتجارة، وانتشار صفات الفوضى والتسيّب وفقدان النّظام والإهمال، حتّى انعكس ذلك على مجتمعات المسلمين وأثّر في كثير من نواحي حياتهم وأعمالهم.إتقان العمل معناه أن يؤدّى العمل دون خلل أو نقص، والالتزام فيه بالمواصفات والمقاييس والضوابط والتقنيات المعمول بها في مثله، وأداؤه في وقته المحدّد دون تأخير. وهو ما يعبّر عنه في الإسلام بالإحسان. وحكمه الشرّعي هو الوجوب، فلا يجوز ولا ينبغي للمسلم أن يهمل عمله أو يسوّفه ويقصّر في تأديته على الوجه المطلوب. والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فالإحسان ذو جانبين، عمل الحسن أو الأحسن ثمّ الشّعور أثناء العمل بأنّ الله يرانَا أو كأنّنا نراه، وهذا هو تعريف الرّسول صلّى الله عليه وسلّم للإحسان بأن: “تَعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”. ويقول عزّ وجلّ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}؛ أي يبتلينا ليرى أيُّنَا أفضل عملًا، من حيث العمل الصّالح، وجودة ما عمل.وفي السُّنّة، أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإتقان، حيث قال: “إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء”، وكتب يعني فرض، والإحسان: الإتقان.كما أنّ الإتقان في العمل هو من باب أداء الأمانة على أحسن وجه، وهي من الأخلاق المهمّة الّتي يجب أنْ يتَّصِف بها العامل، يقول نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم مؤكّدًا على أهميَّة الأمانة: “لا إيمان لِمَن لا أمانة له”، ويقول كذلك: “أدِّ الأمانة إلى مَن ائتَمنَك، ولا تخن مَن خانَك”.ومن القِيَم الخُلقيَّة المهمَّة في مجال العمل والإنتاج إحسانُ العمل وإتقانُه، ذلك أنَّ ديننا الإسلامي يَحُضُّنا على إتقان الأعمال وزِيادة الإنتاج، ويعدّ ذلك أمانة ومسؤولية، فليس المطلوب في الإسلام مجرَّد أن نقوم بالعمل كيفما اتّفق، بل لا بُدَّ من الإحسان والإجادة فيه وأدائه بمهارة وتميّز وإحكام؛ فذلك مدعاة لنَيْل محبَّة الله ومرضاته سبحانه، يقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنَّ الله يُحبُّ إذا عمِل أحدُكم عملًا أنْ يُتقِنه”.ومن العوامل المساعدة على إتقان العمل الإخلاص لله عزّ وجلّ واستشعار مراقبته واعتبار العمل الّذي نقوم به وإن كنّا نأخذ راتبًا عليه أن نعتبره عبادة نتقرّب بها إليه سبحانه وتعالى؛ فالإخلاص هو الباعث الّذي يحفِّز العامل على إتقان أعماله، ويدفعه إلى الإجادَة فيه، ويُعِينه على تحمُّل المتاعب فيه، وبذْل الكثيرٍ من جهده في إنجازه. كما أنّ توافر هذا الخُلُق الكريم في العامل من العوامل الرئيسة الّتي تَحُول دون وقوع الخلل والانحِراف عن الطريق الصحيح في أداء العمل، فهو بمثابة صمّام الأمان ضدَّ الفساد بكلِّ صوره وأشكاله.ومن معاني الإخلاص وصوره المتعدِّدة وجودُ الرّقابة الذاتيَّة في العامل، ومبعث هذه الرّقابة إحساسُ العامل واستِشعاره بأنَّ الله سبحانه وتعالى يرى سلوكه وكلَّ تصرُّفاته في أداء عمله، وأنَّه سائله عنها ومُجازِيه عليها يوم القيامة؛ يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، ويقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، ويقول كذلك: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}.ويجب أن نعلم أن من أسباب تخلّفنا الحضاري هو تقصيرنا في أداء الأعمال الموكول لنا القيام بها والّتي استؤمنا على إنجازها، وإنّ الإهمال والتسيّب وعدم استشعار مسؤولية إنجاز المهمّات على أحسن وجه، وانتشار هذه الصّفات والأخلاق الذّميمة في أوساط شبابنا، وفقدان النّظام وعدم المبالاة بقيمة الوقت واختفاء الإحساس بالمسؤولية، والإهمال والغشّ والخديعة والرّشوة والكذب والإخلاف بالعهود والوعود.. كلّ ذلك أثر في صورتنا ومجتمعاتنا.إنّ أجدادنا رغم قلّة إمكاناتهم إلّا أنّهم كانوا يؤدّون أعمالهم بإحسان وإتقان، فلهذا تقدمّوا الأمم وبنوا لنا حضارة نفتخر ونعتزّ بها. فعلينا أن نتواصى بإتقان العمل، ونجعل ذلك حالة عامة يلتزم بها جميع أفراد المجتمع كما يقول تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، ولنعلم أنّ الله رقيب على أعمالنا.وإنّ المسلم اليوم مطالب باستيعاب هذا المبدأ العظيم من مبادئ ديننا الحنيف، وبترسيخ هذه القيمة التربوية الحياتية العظيمة في واقعنا وسلوكنا، وأن نجعلها واقعًا معاشًا لأنّها تمثلّ معيار سلامة وقوّة شخصية الفرد وكذلك سمة التغيير الحقيقي فيه. كما أنّنا مطالبون ببذل الجهد كلّه في إتقان كلّ عمل في الحياة يطلب منّا ضمن واجباتنا الحياتية، وإذا قمنا بذلك كنّا نعمل على ما يحبّه الله تعالى ويرضاه فيبارك في أعمالنا ويصلح من أحوالنا المتدهورة فهو المطّلع على أمور عباده وهو الحيّ الّذي لا ينام، وهو القائل عزّ جلاله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات