38serv
يقول الحقّ سبحانه: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، هذه الآية وإن كان سياقها موضوع الطلاق، إلّا أنّ فيها حثًا على العفو والتّسامح، وهو ما يضفي على جوّ العلاقات لونًا من المودّة والتّقارب بين النّفوس، فتنازل الأخ لأخيه عن شيء من حقّه والتّسامح معه، فذك أقرب إلى تقوى القلوب، وصفاء النّفوس.مقام العفو والصّفح في رؤية كثير من النّاس ذلّ ومهانة، فتقول له نفسه الأمّارة بالسّوء: كيف تعفو، وكيف تصفح وقد فعل بك ما فعل، وأساء ما أساء، أين العزّة، أين القوّة، أين الشّهامة!، وكلّ ذلك من تلبيس إبليس.ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله”، أي: أنّ العفو لا يزيد صاحبه إلّا عزّة وسموَّ قدر في الدّنيا والآخرة. يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “أحبّ الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجِدَة، والرّفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدّنيا إلّا رفق الله به يوم القيامة”.في العفو والتّسامح توثيق لروابط المجتمع، وهو سبيل إلى الألفة والمودّة بين المسلمين، في العفو الطمأنينة والسّكينة وشرف النّفس، بالعفو تكتسب الرّفعة والمحبّة عند الله وعند النّاس، في العفو رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري، وامتثال لأمر الله، وطلب لثوابه وغفرانه.والعفو والصّفح من هديه صلى الله عليه وسلم، فأين المُشمِّرون وأين المقتدون؟ أين مَن يغالِبهم حبُّ الانتصار للذّات والانتقام للنّفس؟ سُئلت الصّدّيقة بنت الصّدّيق رضي الله عنهما عن خُلق رسول الله فقالت: “لم يكن فاحشًا ولا متفحّشًا ولا صخّابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح”. انظر رعاك الله وتأمّل موقف سيّد الخلق يوم الفتح العظيم، فتح مكة يقف وقوف الخاشع لربّه وتنطلق منه كلمات لم يسمع ولم يسطّر التاريخ مثلها، قال: “يا معشر قريش، ما ترون أنّي فاعل بكم”؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم!! قال: “فإنّي أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء”.وقد اقتفى الصّحب الكرام أثر معلّم الخير صلى الله عليه وسلم في مقام العفو، ففي حديث الإفك، قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الّذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فبكى أبو بكر وقال: بلى والله إنّي أحبّ أن يغفر الله لي، وأرجع إلى مسطح النّفقة الّتي كان ينفق عليه، قائلًا: والله لا أنزعها منه أبدًا.والعفو شعار الكرام، فقد كانت العرب تسعد بالعفو وتفخر به أعظم من سعادتها بتلطيخ الأيدي بالدّماء البريئة عند القتل، قيل للأحنف: ممّن تعلّمتَ الحِلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبيًا بحمائل سيفه، يحدّث قومه، حتّى أتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فوالله ما حلّ حُبوته، ولا قطع كلامه، ثمّ التفت إلى ابن أخيه، وقال: يا ابن أخي، أسأت إلى رحمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلتَ ابن عمّك، ثمّ قال لابن له آخر: قُم يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمّك، ووار أخاك، وسق إلى أمّه ناقة دية ابنها فإنّها غريبة.والإمام أحمد رحمه الله عُذّب في عهد المأمون وبأمر منه في حادثة القول بخَلْق القرآن، وجلّد جلدًا لا يتحمّله بعير، ومع ذلك عَفَا، وكان يدعو فيقول: اللّهمّ اغفر للمأمون. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لحق به من الأذية ما الله به عليم، ومع ذلك التمس الأعذار لمَن أساؤوا إليه، يقول ابن القيم: أتيتُ إليه مبشّرًا له بوفاة أشدّ النّاس أذية له، قال: فغضب، ونهرني وتغيّر عليّ، وقام من مجلسه، ثمّ ذهب إلى أهل ذلك المتوفَى الّذي كان يُسيء إليه، وقال: أنا لكم مكانه، لا تريدون شيئًا إلّا حقّقته لكم.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات