38serv

+ -

 إن رفع الحرج على الرغم من أنه مقصد شرعي مقطوع به، إلا أنه يخشى عليه من عاقبة هجوم المتربصين بالدين، فيسعون تحت اسمه إلى إسقاط بعض التكاليف والتقصير في بعضها الآخر، ولكن علماءنا الأجلاء تنبّهوا لهذه المسألة، فرسموا ضوابط يتم بواسطتها إدراك الحرج الواجب الرفع من غيره، وهذه الضوابط تتمثل فيما يلي:- إن الحرج، إذا كان لازما للفعل ولا ينفك عنه لا يسقط الفعل، كالحرج الواقع من قتل النفوس في الجهاد، فلا يتصوّر أداء فريضة الجهاد، دون حصول إتلاف بعض النفوس، فإن أي وجه لرفع مشقة القتل في الجهاد نتيجته هي إبطال فريضة الجهاد حتما، قال المقري: “الحرج اللازم للفعل لا يسقطه، كالتعرّض إلى القتل في الجهاد لأنه قدّر معه”.- إن الحرج إذا كان منفكا عن الفعل وغير لازم له، ينظر فيه من ثلاثة وجوه: أ- إذا كان الحرج غالبا أفضى إلى إسقاط الفعل، كإسقاط الغسل عند خوف التلف، ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلّم في شأن الرجل الذي أصيب بجرح في رأسه، وكان عليه غسل، فأمره أصحابه بالغسل فاغتسل فمات: “قتلوه قتلهم الله أولم يكن شفاء العي السؤال”. ب- إذا كان الحرج قليلا لا يسقط الفعل، قال المقري: “وإن كان -أي الحرج- في الدنيا كبيع الماء بغير غبن ولا فحش لم يسقطه”. ج- وما كان من الحرج بين المرتبتين فهو ملحق بما هو أقرب إليه من تلك المراتب، فيأخذ حكمها.- إن الحرج لا يلغي الفعل، وإنما يسقطه إلى بدل أخف منه في الأداء، كإسقاط الصوم عن المسافر والمريض وغيرهما من الأداء إلى القضاء، وإسقاط الوضوء إلى التيمم عند حصول الأعذار، وإسقاط قراءة الفاتحة إلى الذكر في الصلاة لمن لا يقدر عليها، قال ولي الله الدهلوي: “إذا منع من المأمور به مانع ضروري وجب أن يُشرع له بدل يقوم مقامه، لأن المكلف حينئذ بين أمرين، إما أن يكلف به مع ما فيه من المشقة والحرج، وذلك خلاف موضوع الشرع، وإما أن ينبذ وراء ظهره بالكلية، فتألف النفس بتركه، وتسترسل مع إهماله”.- ليس كل حرج موجب للترخص، لأن وجوه الحرج كثيرة ومتعددة، وتتبع ذلك بالرخص يقضي على معنى الامتثال والانقياد بفقد مناطه، وهو العناء، قال ولي الله الدهلوي: “ليس كل حرج يرخص لأجله، فإن وجوه الحرج كثيرة، والرخصة في جميع ذلك تفضي إلى إهمال الطاعة، والاستقصاء في ذلك ينفي العناء ومقاساة التعب، وهو المُعَرَّف للانقياد للشرع واستقامة النفس، فاقتضت الحكمة أن لا يدور الكلام إلا على وجوه وقوعها وعظم الابتلاء بها قولا، لاسيما في قوم نزل القرآن بلغتهم، وتعيّنت الشريعة في عاداتهم، ولا ينبغي أن يجاوز من ملاحظة كون الطاعة مؤثرة بالخاصية متى ما أمكن ولذلك شرع القصر في السفر، دون الأكساب الشاقة، ودون الزراع والعمال، وجوز للمسافر المترفه ما جوز لغير المترفه.- إن رفع الحرج في عموم المكلفين آكد منه في خصوصهم، وبناء عليه، فإن ما يرخص فيه للأفراد من الأفعال لاقتضاء الضرورة يرخص في مثله للعموم لاقتضاء الحاجة، ولقد ساق الجويني مثلا لذلك، قال فيه: “إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلا، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته، ولم يتعاط الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم، وتعدوها إلى الضرورة، لهلك الناس قاطبة، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد”.- إن قصد الشارع في رفع الحرج متجه نحو الكليات أكثر منه في الجزئيات، لذلك تجد بعض التكاليف الجزئية، رغم ما فيها من الحرج، لم تشرع لها رخصا، قال الإمام الشاطبي: “إن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات، فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري البتة، وهو مقتضى قوله: “وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج} الحج:٧٨، ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات”.رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات